الجمعة، 17 أبريل 2015



المصباح

حدث منذ سنوات وكنت شابا يعتمد على نفسه .. ويتطلع إلى المستقبل بأمل وقوة .. أن أقمت عند أرملة إيطالية .. كانت تسكن فى عمارة ضخمة بشارع الشيخ حمزة فى حى قصر النيل ..
وكان المسكن فى بناية قديمة ومكونا من أربع غرف فسيحة وكنت أشغل أصغرها وألصقها بغرفة الأرملة .. وأطفالها الثلاثة ..
وانقضى على سكنى عندها أسبوع كامل ولم أكن قد شاهدت من يشغل الغرفتين الأخريين .. وكان هذا لا يعنينى فى شىء ..
وكان البنسيون عائليا .. وهذا يعنى أنه لا يوجد به دفتر للنزلاء يطلع عليه البوليس .. وكانت صاحبته امرأة مسنة .. أبيض شعرها .. ولكن وجهها بقى سمينا أحمر يفور بالدم .. وقد خلا من التجاعيد ..
وكانت عصبية حادة الطبع لا تكف عن الصراخ بالإيطالية وهى تحسب أن كل الناس يعرفونها .. وكان صراخها لا يزعجنى .. لأنى كنت أذهب إلى بيتها .. لأضع رأسى على المخدة .. طارحا وراء ظهرى كل ما يحدث فى الخارج ..
***
وذات ليلة من ليالى الشتاء .. وكنت سهرانا وأحسست وأنا أنهض فى الصباح برعشة فبقيت فى الفراش .. إلى الضحى .. وفى الصباح رأيت ساكن الغرفة الثالثة .. وكان رجلا طويلا ممشوق القوام جاوز سن الشباب ولكنه بادى الصحة وكان حسن الهندام يحتفظ بشاربه المفتول وطربوشه الطويل .. وعصاه العاجية وكنت ترى على صدره سلسلة ساعته الذهبية .. وترى فى أصبعه خاتما كبيرا من الياقوت ..
كان من ذوى الأملاك فى القاهرة .. ولا عمل له ولا صنعة ويبدو كأنه مقطوع الأهل .. وكان يقتل الفراغ بالتنقل بين القهاوى .. وعندما رأيته تذكرت أننى صادفته أكثر من مرة فى قهوة منيرفا ..
وكان يسكن فى الغرفة الرابعة شابان متزوجان حديثا ويبدو أنهما تخلصا من مشكلة الجهاز .. بالإقامة فى البنسيون .. ولم أشاهد الزوج وإنما رأيت الزوجة وهى تحمل شيئا إلى غرفتها .. وكانت طويلة ولفاء وجمالها يبهر الأبصار .. وكان سكان المنزل قلوا أو كثروا يتضاءلون أمام صاحبته .. فقد كانت دائبة الحركة والعمل .. ومع أننى كنت أنام عندها فقط .. ولا آكل ولا أغسل ثيابى .. فقد كانت تعدنى النزيل الأول .. لأنى أعيش وأعمل فى القاهرة أما الآخرون .. فعابرون .. ولكننى كنت أحس أن طريقتى الانطوائية لا تعجبها .. فلم أكن أشترك معها فى سهرات يوم الأحد .. ولا كانت ترانى أحادث إحدى زائراتها أو أدعو امرأة إلى السينما أو العشاء فى الخارج ..
وكشاب مصرى يشق طريقه فى الحياة بعرق الجبين .. ويشغل العمل كل وقته لم تكن هذه الأشياء تخطر لى على بال وإن خطرت كانت تعبر سريعة كسحابة الصيف ..
وكانت صاحبة البيت كمعظم الأرامل دائبة الشكوى من الحياة .. ومن الناس ..
وكان صراخها يزعج .. ويدها تتحرك على أطفالها .. ما داموا متيقظين ..
وكان عراكها مع لطفى أفندى صاحب الأملاك .. لا ينقطع وكان هو كثير الضحك وينقلب ضحكه إلى ثورة عاتية .. إذا تطور النزاع .. تبعا لحالتها النفسية ..
ولم أكن أدرى لم يستمر مقيما عندها بعد كل هذه المنازعات ..
***
وكانت تضع صورة المرحوم زوجها البرتو .. على مائدة الزينة فى غرفتها .. وتجعل وجهها إلى الحائط إذا كان الصفاء تاما بينها وبين لطفى .. فإذا تعاركا .. عادت تضع الصورة معدولة ..
وكانت إذا ثارت تتحرك فى البيت كالزوبعة وتحمل أمامها كل ما تصادفه .. من آنية وأكواب .. ثم تعود هادئة بعد العاصفة .. ويبدو فى عينيها الصفاء والرقة وفيما عدا هذه العواصف المؤقتة التى تمر كأيام الخماسين .. كان البيت هادئا ويعد نموذجيا ..
وكان لطفى أفندى صاحب الأملاك الأعزب .. هو أكثر المقيمين مكوثا فى البيت .. وكان يلتف حوله الأطفال .. وأراه جالسا معهم يضاحكهم وكان الأطفال يحبونه .. وعندما يأتى فى يوم السبت بجريدة السباق ويحدثهم عن الخيل وعن الحصان مرزوق .. وكيف يجرى بسرعة البرق فى الميدان .. كان يخيل إليهم أنه يجرى أمامهم .. وفيما عدا الخمر التى كان يشربها بكثرة .. والتى كان بسببها يثور .. ويمكث فى البيت .. فإنه فيما بدا لى كان إنسانا كأى مخلوق على ظهر الأرض ..
وكانت المدام رغم منازعاتها الكثيرة معه .. واخراج حقيبته ووضعها على الباب تعرف أنه أحسن النزلاء .. وأنه يدفع بسخاء .. ويقوم عنها بنصف الحمل .. فقد كان يأكل معهم ..
***
وكانت العروسة زبيدة المتزوجة حديثا .. دائمة القعود فى البنسيون .. ولا تنزل إلى الشارع إلا قليلا .. والواقع أنها جاءت إلى القاهرة لأول مرة ..
وكان قد انقضى على وجودها فى البيت معنا شهر .. والفتاة تبدو كأجمل من تحمله الأرض .. ضاحكة طروب .. وكانت حلوة التقاطيع ملفوفة الجسم رشيقة ..
***
وحدث ما لم يكن مقدرا فى حسبان أحد .. نزل زوجها فى صباح يوم كعادته ولم يعد .. وظلت الفتاة طول الليل فى غرفتها تبكى ..
وفى اليوم التالى بقيت محبوسة .. وتصورنا أن زوجها خليل .. وقع له حادث فأخذنا نطالع الصحف .. وأخبار الحوادث باهتمام .. ولكنا لم نعثر على خبر يدل عليه ..
وكانت صاحبة البيت حزينة أكثر من أى إنسان لأن خليل لم يدفع مليما منذ سكن .. وأصبحت زبيدة رهينة فى البيت ..
***
وعصر يوم من أيام الخميس .. كنت أتناول ساعتى من أحد الجواهرجية فى الحى فوجدت زبيدة .. واقفة أمامى تتحدث مع صاحب الحانوت .. ولم ترنى وأنا داخل ..
وسمعت الرجل يقول لها وهو يعيد شيئا إلى يدها :
ـ هذه ليست بذهب .. يا سيدتى .. ولا تساوى شيئا ..
فاصفر وجهها .. واستدارت فرأتنى .. فازداد اضطرابها وخرجت مسرعة ..
وبعد دقيقة واحدة .. رأيتها تسقط أمامى فى الشارع .. وجريت نحوها .. وقبل أن يتجمع الناس .. حملتها فى تاكسى .. إلى مركز الإسعاف .. وكان قريبا منا .. وقال لى الطبيب وهو يعطيها حقنة :
ـ إنها جائعة .. وهذا سبب الإغماء .. لم تأكل من يومين .. فعليك بوجبة ساخنة ..
ولما استفاقت واستراحت قليلا .. نظرت إلىّ وإلى ما حولها .. وأدركت ما حدث ..
وخرجنا إلى الطريق .. وركبنا أول أتوبيس صادفنا .. وركبت دون أن تسألنى عن وجهتى .. كانت مسلوبة الإرادة من الإعياء والجوع .. ولم أكن وأنا أركب الأتوبيس قد عرفت وجهتى .. فلما رأيت العربة تتجه إلى مصر الجديدة .. سررت فقد كانت زبيدة فى حاجة إلى الهدوء بعيدا عن صخب القاهرة وضجيجها ..
وجلسنا فى شرفة مطعم صغير .. يطل على الصحراء .. وكان الليل قد سقط ونشر وشاحه حوالينا ..
ورفضت أن تأكل ثم أدارت الملعقة فى الحساء فى بطء وتثاقل .. ورأيتها أمامى ذليلة تخنقها العبرات .. ولما جفت دموعها .. أخذت تتحدث ..
قالت لى أنها أحبت خليل حبا جنونيا .. وقررا الزواج ولما أدركت أن أهلها فى الإسكندرية .. لا يوافقون على هذا .. هربت معه إلى القاهرة لتتزوج فيها .. ولكنها لم تتزوج .. تركها قبل أن يعقد عليها .. كانا سعيدين فى الأسبوع الأول معهما نقود ويصرفان بسخاء .. ولا يفكران فى شىء .. حصرا وجودهما فى جسميهما .. وانفصلا عن العالم كله .. ولما نفد ما معهما من مال استفاقا من غشيتهما .. وابتدأ العراك .. والخلاف ..
وفى صباح يوم خرج .. ولم يعد .. وهى الآن لا تستطيع أن تعود لأهلها بعد كل ما حدث .. لا تستطيع ولو شنقت ..
ورأيتها أمامى .. جميلة شابة .. كالزهرة المتفتحة .. ولكنها ذبلت قبل الأوان وتلطخت فى الوحل ..
وهى الآن تقف على رأس الهاوية .. واعتصر قلبى الألم .. لأنى لا أستطيع أن أفعل لها شيئا ..
وفكرت فى عمل لها .. ولكن الفتاة لم تكن متعلمة ..
وكان جمالها فى الحقيقة .. وهو أبرز شىء فيها .. أسوأ ما فى المسألة .. والواقع أنه مع كل الحلول التى فكرت فيها لم أفكر قط فى أن أتزوجها .. ولم تخطر لى هذه الفكرة على بال .. كأننى كنت أحملها نتيجة الخطأ الذى تردت فيه ..
وكان إصرار الفتاة على عدم العودة إلى أهلها يجعل الطريق أمامها مسدودا ..
وعندما عدت بها فى الليل إلى البنسيون .. تصورت المدام أن زبيدة أصبحت عشيقتى .. فسرت لأنى حللت مشكلة إيجار الغرفة .. وكانت زبيدة تغلق عليها الباب بالمفتاح .. وتنام للصباح تاركة الأمر للمقادير ..
وكان أجرى الشهرى لا يساعدنى على الانفاق عليها ومع هذا فقد أخذت بعد حادث الإغماء .. أتغدى فى البيت لتأكل معى .. ولكنها كانت لا تأكل إلا قليلا وهى تحس بألم وذلة ..
وكان لطفى يقدم لها الطعام والفواكه ولكنها كانت ترفض ما يقدمه بإصرار ولم يكن مع الفتاة أى شىء تبيعه لتعيش منه .. لا ملابس ولا حلى .. وكانت هذه الحال السيئة تطير لبها وتجعلها تتحرك فى البيت وكأنها فقدت روحها ..
***
وفى صباح يوم طلبت المدام أن أبحث لها عن شخص محترم يؤجر الغرفة .. لأنها لا تحب من يأتى بهم السماسرة .. وسألتها :
ـ أى غرفة ..؟
ـ غرفة زبيدة ..
ـ ستطردينها ..؟
ـ سى ..
ـ حرام .. أنها مسكينة .. أين تذهب .. وكيف تعيش ..؟
ـ تعيش كما يعيش غيرها من النساء .. إنها لم تدفع أجر الغرفة ثلاثة شهور .. حرام أن أميت الأطفال من الجوع ..
ـ هذه قسوة شنيعة .. من أنثى ..
فنشرت جناحيها وهى تصيح :
ـ ألورا .. ألورا ..
وتركتها وخرجت ..
ولكن بعد يومين إثنين .. عدلت عن رأيها وقالت لى زبيدة باقية .. تنتظر عودة الشاب الذى جاء بها إلى هنا ..
ولم أعلق على هذا بشىء مادامت هى راضية عن وجودها ..
ولاحظت أن زبيدة أخذت تتزين كما كانت .. وتبدو مجلوة ضاحكة كأن الغمة قد انزاحت عنها ..
وفى مساء يوم من أيام الآحاد .. كانت المدام قد خرجت بأطفالها للنزهة وذهب لطفى إلى ميدان السباق .. فوجدت زبيدة فى البيت وحدها ..
وأخذنا نتحدث .. وتطور بنا الحديث حتى حدثتنى بأنها ستتزوج .. وانتفضت كأنى لسعت ..
ـ أنت .. من ..؟
ـ لطفى أفندى ..
ـ لطفى .. وهل تطمئنين إليه ..؟
إنه أحسن حل للمسألة ..
ـ ومن يحضر المأذون ..؟
 لن يحضر .. مأذون .. سيكون الزواج بورقة عرفية ..
وضحكت ساخرا ..
ـ وهل ترضين بهذا الهوان ..
ـ وما الذى أفعله يا سى إبراهيم .. أريد أن أعيش .. لقد قتلنى الجوع ..
هل تقبل أن تتزوجنى أنت ..؟
وفوجئت بالسؤال .. الصاعق .. ولم أنبس .. واستمرت تتحدث ..
ـ أريد أن أعيش .. أشبع بطنى .. أعرف أنه سيطردنى بعد شهر أو شهرين .. ولكنى أريد أن أعيش فى هذه اللحظة .. وهذا يكفى .. والليلة سأذهب إليه .. فى غرفته .. وأنهى هذا الجحيم .. وظلت تبكى ..
***
وبعد الغروب رأيتها متزينة .. وكان لطفى متأنقا كعادته .. وذهبا إلى السينما وعادا بعد الساعة التاسعة .. وهما فى غاية السرور ..
وشعرت بشىء يجثم على صدرى ولم أستطع تعليل هذه المشاعر .. ألأنى رأيت هذا الجمال يفلت من يدى بسهولة ويذهب إلى غيرى .. شعرت بالانقباض ..
وظللت ساهرا .. ولم أغلق باب الغرفة ..
خلعت زبيدة ملابس الخروج .. وذهبت إلى الحمام .. ساعة وقد احتقن وجهها ونفشت شعرها .. ورمت بابى بنظرة ثم مضت ..
وتمددت بعد أن مرت أمامى على الفراش .. ولا أدرى أدخلت غرفته أم غرفتها ولكننى ظللت متنبها حتى سمعتها تصيح ..
ولما خرجت من الباب كانت واقفة على باب غرفتها بالقميص .. ولطفى يحاول أن يدفعها إلى الداخل وهى تمتنع .. وتصيح :
ـ لن يمسنى رجل .. كلكم وحوش .. كلاب .. أخرج .. أخرج ..
كانت تصيح كمن أصابه الجنون .. ودخلت غرفتها وأغلقت الباب بالمفتاح ..
***
وفى الصباح الباكر .. لم نجدها .. أخذت حقيبتها الصغيرة وذهبت ..
***
ومر عام كامل ..وتركت البنسيون .. وسكنت فى بيت بمصر الجديدة .. ولمحت وأنا أعبر الشارع الذى فيه بيتى ذات يوم لافتة فى الدور الأرضى فى بناية حديثة ..
( مصبغة وتنظيف )
وكان عندى بدلة لوثها قطار الصعيد فحملتها ودخلت المحل ..
وتناولها منى صبى صغير ..
فقلت له :
ـ ممكن تخلص بكرة .. علشان مسافر ..
فقال الصبى :
ـ حسأل الست ..
ودفع ستارا ودخل بالبدلة ..
وسمعت صوتا أعرفه يقول فى الداخل :
ـ ممكن بعد الظهر .. الساعة خمسة ..
ـ الساعة خمسة ..؟
ـ سى ..
قالت زبيدة هذا .. وهى تدفع الستار .. وترانى .. أمامها .. وكانت السترة بيدها .. فضمت عليها أصابعها لحظات .. ثم نشرتها على الطاولة .. وأخذت تنظر إلىّ .. ورأيتها أمامى كما كانت جميلة أخاذة .. وسمعت بكاء طفل حديث الولادة يأتى من الداخل ..
وابتسمت زبيدة .. لما رأت وجهى يتغير .. وأشارت بسبابتها وهى تضحك .. إلى شاب .. يجلس فى الخارج .. تحت المصباح يرفو الملابس ونظر إليها الشاب .. ولم يفهم .. ثم ابتسم .. كان وادعا مشرق الوجه ..
وأدركت كيف اجتازت المعبر بسلام .. بعد أن أضاء لها هذا المصباح .. وعندما قلت لها وأنا خارج :
ـ شاو ..
مدت ذراعها العاجى .. ولوحت به قائلة :
ـ شاو ..
وكان السرور يطل من عينيها وقلبها ..
=========================
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 117 بتاريخ 30/9/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " غرفة على السطح " سنة 1960
======================== 
 










 
جَــذوة فى الرماد

     حدث فى صباح يوم من أيام الخميس وأنا أتجول وحدى بحى الستى فى هونج كونج وكنت قد اخترقت شارع كوين رود .. باحثا فى واجهات الحوانيت عن آلة تصوير نادرة كلفنى بها صديقى أحمد ـ قبل أن أبرح القاهرة ـ أن أحسست بألم حاد فى أسنانى لم أستطع احتماله ..
     وكنت قد شعرت بمثل هذه الأوجاع وأنا فى بانكوك .. ولكنها كانت تأتى لفترة قصيرة .. ثم تمضى .. وأنساها فى خلال المباهج المثيرة التى أراها .. فى الرحلة .. ولكن فى هذه المرة أحسست بها تمزق لثتى وأحسست مثل طعن الإبر الحادة فى فكى الأسفل .. وفكرت أن أتصل بالفندق تليفونيا .. وأعرف منه عنوان طبيب أسنان ..
     ولكننى لمحت أجزخانة فى الشارع فدخلتها .. وسألت الرجل عن طبيب أسنان فدلنى على طبيب فى الشارع المجاور ..
     وصعدت إلى الطابق الثالث .. فى عمارة ضخمة .. وأحسست وأنا أقرع الجرس بأن الألم قد زال .. فكرت فى أن أعود لولا أن رجلا قصيرا قبيح الوجه فتح لى الباب فى هذه اللحظة وانحنى لى دون أن ينبس .. وقادنى إلى حيث توجد سكرتيرة الطبيب وكانت شابة ترتدى ملابس متأنقة فأحنت رأسها وابتسمت ..
     وسألتها بالإنجليزية عن الطبيب وأنا أضع يدى على خدى ..
     فسألت برقة :
     ـ هل معك ميعاد .. ؟
     ـ أبدا .. إنى شعرت بالألم الساعة ..
     ـ سنجعل الميعاد فى صباح الاثنين الساعة الحادية عشرة ..
     ـ إننى سائح .. وقد أسافر .. قبل ذلك ..
     ـ إذن سنجعله .. غدا ..
     ـ ألا يمكن الآن .. ؟
     ـ الآن .. لا يمكن أبدا ..
     ـ إننى أتألم .. انقلينى إلى المستشفى .. أنا غريب .. أرجوك ..
     فصوبت إلىّ نظراتها لمدة نصف دقيقة ..
     ثم قالت بصوتها الخالى من كل العواطف :
     ـ لحظة من فضلك ..
     وغابت عنى .. دقيقتين .. وفى أثناء ذلك عاودنى الألم بشدة .. وأحسست بفكى ينخلع ..
     وعادت السكرتيرة .. وقالت مبتسمة :
     ـ ستدخل بعد قليل ..
     ـ شكرا ..
     وتركتنى وحدى .. وأخذت أقلب بصرى فيما حولى .. لم أر فى القاعة مريضا سواى .. ولم يكن فى العيادة سوى هذه السكرتيرة .. والخادم .. الصينى الذى كان يقف كالأبله بجوار الباب الخارجى .. وكانت هناك ساعة تدق .. كل ربع ساعة .. وخلاف هذه الدقات لم أسمع أى حركة على الإطلاق ..
     وكانت أرضية الحجرة مغطاة بالمشمع .. والحيطان عارية من الصور .. ولكن الستائر الحريرية على النافذة .. وعلى الباب .. والمفارش المزركشة على المساند .. وعلى المناضد ..
     وطال جلوسى .. ولم يأت إلىّ أحد ولم أسمع حسا .. وخفت حدة الألم .. وكنت أود أن أنسل إلى الخارج .. فإن هذا الأبله الذى فتح لى الباب لا يمكن أن يعرف إن كنت قد دخلت على الطبيب أم لم أدخل ..
     وفى أثناء هذه الخواطر .. دخلت علىّ ممرضة جديدة لم أرها من قبل وقادتنى إلى غرفة الفحص ..
     ودخلت فوجدت سيدة فى منتصف العمر ترتدى معطفا من النيلون الأبيض وتضع على عينيها منظارا .. وتصورتها ممرضة أيضا .. ولكن لما أجلستنى أمامها على المكتب وأخذت تسألنى عن علتى أدركت أنها الطبيبة المختصة .. ولم أكن أتوقع أن أدخل على طبيبة صينية فى هونج كونج أبدا ..
     وكانت جامدة الوجه وهى تفحص أسنانى .. وكنت أود أن أعطيها كل ما فى جيبى من عملات مختلفة لتبتسم .. وأرى لون أسنانها .. ولكنها لم تخفف من جهامة ملامحها قط ..
     وعلى الرغم من هذه الجهامة البادية فقد كانت يدها رقيقة .. ولقد تحملت بصبر عظيم كل حدة أعصابى .. وفزعى من مجرد حركتها الخفيفة على اللثة ..
     وسألتنى :
     ـ لماذا تبدو .. عصبيا .. ؟
     ـ ليس لى ذنب .. فى هذا .. قد أكون ورثت هذه الأعصاب ..
     ـ أجل .. قد تكون ..
     وكانت تتحدث الإنجليزية .. بطلاقة ..
     ولما قلت لها .. بأننى كنت أتوقع أى شىء .. إلا أن أجد طبيبة فى هذا الشارع ..
     قالت :
     ـ لماذا .. ؟ هل هو شارع مهجور .. ؟
     ـ أقصد .. سيدة ..
     ـ لماذا .. ألا توجد عندكم طبيبات ..؟
     ـ عندنا .. ولكنهن قليلات جدا .. والبنات يرغبن فى الكليات الأخرى ..
     ـ لدينا كلية للطب .. وبها كثير من البنات .. وأنا درست الطب فى لندن .. وكان زوجى طبيبا أيضا ..
     ـ هذا رائع ..
     وسألتنى :
     ـ لماذا أهملت .. أسنانك هكذا .. ؟
     وشعرت بالخجل .. ولكننى قلت :
     ـ بالطبع .. لم أكن أتصور أننى أهملتها ..
     ـ لقد تركت هذه الطبقة الجيرية تتحجر فأنا الآن أكسر أحجارا ..
     وفزعت .. ونظرت إلى عينيها ..
     وأضافت هى بتؤدة :
     ـ قلت .. لمس تشن .. بأنك مسافر .. متى السفر .. ؟
     ـ سأبقى .. حتى ينتهى العلاج ..
     ـ هذا حسن ..
     ولانت ملامح وجهها قليلا ..
     كانت رقيقة الطباع حقا .. وكان صوتها عذبا .. وكانت متوسطة الطول جميلة الوجه فى السابعة أو الثامنة والثلاثين من عمرها .. ويبدو الشباب بكل قوته على وجهها .. وكانت الضمة التى فى جانبى جفنيها هى أشد الأشياء فتنة ..
     وسألتها بعد أن انتهت من عملها ..
     ـ هل يمكن أن أعرف مصاريف العلاج .. ؟
     ـ هل أنت طالب ..؟
     ـ لا .. إننى مجرد سائح ..
     ـ ستحدد لك سكرتيرتى المبلغ .. وتعرف منها مواعيد الزيارة ..
     وشكرتها ..
     وتركتنى .. ونفذت من باب آخر .. وكانت قد خلعت نظارتها .. وبدت متعبة .. ولكن وجهها بعد أن خلعت المنظار ازداد نضارة وشبابا ..
***
     وفى صباح السبت .. دخلت عيادة الدكتورة يانج .. مرة أخرى وقادنى خادمها الصينى إلى الداخل .. وجلست على الكرسى ذى المساند .. وأخذت الطبيبة تزيل بأناملها الرقيقة .. الطبقة الجيرية .. من أسنانى العليا .. وكانت رغم كل رقتها تدمى أسنانى فأشعر بإنسانيتها الرقيقة .. وهى تمسح هذه الدماء .. بالقطن الناعم المعقم .. ثم تغسل الجروح بالمطهر ..
     وكانت الجلسة الواحدة .. تستغرق نصف ساعة كاملة ورغم الألم الذى كنت أعانيه من مجلسها فإنى لم أكن أشعر بمرور الوقت .. ولم أكن أدرى أكان ذلك لوجهها الساكن أم لأنى لمست فيها صفات إنسانية لم أرها من قبل فى إنسانة مشغولة بالعمل .. أم لرقة حديثها ولأنى أدركت أنها تخصنى بجانب من وقتها ..
     وكانت الأوجاع قد قلت نسبيا .. ولكننى لم آسف وأنا أقضى وقتا من الصباح فى التردد على عيادة طبيبة فى مدينة عامرة فى كل ساعة بالمباهج والمتع ..
     وكانت الدكتورة يانج قد خبرت كل صفاتى فى خلال الأيام العشرة التى قضيتها وأنا أتردد عليها .. كما أننى عرفت كل طباعها .. تقريبا.. فهى متفرغة لعملها فى دقة متناهية ونشاط لا يوصف .. ويكتسى وجهها بصرامة .. لا أعرف سببها .. ولكنها فى عملها متفانية فى الرقة .. وقد تبسطت معى فى الحديث .. لأنى غريب .. وقد عرفت منها أن زوجها الطبيب الذى حدثتنى عنه من قبل التقت به أثناء عملها فى أحد المستشفيات .. وأحبها ولما طلب يدها لم ترفض .. ومات .. بعد عشرة قصيرة .. فى أثناء غارة اليابان على هونج كونج فى الحرب الأخيرة وبقيت هى تكافح وحدها .. وقالت لى إنها كانت تحبه لأنه كان يحترمها ويحوطها بحنان دافق ..
     ولقد أدركت أن جذور الرجل .. رغم مضى هذه السنين الطويلة .. لا تزال متأصلة فيها وذكراه لا تزال باقية .. ولهذا أحبت عملها وتفانت فيه ..
     ولقد قضيت ثلاثة أسابيع .. وأنا أتردد على هذه السيدة .. وأجلس تحت مصباحها البللورى .. وأقع تحت نظراتها .. العادية .. ونظرات المجهر ..
     ولقد لمست فيها كل الصفات النبيلة التى أحبها فى المرأة .. فقد عاملتنى بإنسانية زائدة ولما تبينت فقرى .. لم تأخذ إلا ربع الأجر ..
     وكان المعروف عن نظام عيادتها أنه لا يلتقى عندها مريض بمريض .. لأن كل واحد يأتى فى الساعة المحددة له .. ولاحظت أنها غيرت موعدى فجعلته فى المساء بدل الصباح .. وجعلتنى آخر واحد لتحادثنى أكثر وأكثر .. ولقد شعرت بأنها تخصنى .. بشىء غير عادى من رعايتها .. ومن نظراتها .. ومن حنانها ..
     وفى مساء يوم .. وكنت آخر مريض فى جدولها كالعادة  .. أبديت لها رغبتى فى أن تدلنى على محل أشترى منه معطفا لوالدتى ..
     فسألتنى وهى تصوب إلىّ نظراتها المتألقة :
     ـ كم عمرها .. ؟
     ـ أنها فى الثامنة والثلاثين .. مثلك .. وفى مثل طولك ..
وكانت حماقة منى أن أحدثها عن سنها .. فإن وجهها امتقع قليلا .. ثم عادت .. وابتسمت وقالت بصوت أكثر رقة ..
     ـ إذن أرافقك إلى المحل .. لتقيس المعطف علىَّ ..
     وقالت وهى تخلع مئزر العمل ..
     ـ متى تحب أن تذهب .. ؟
     ـ الآن .. إذا لم يكن لديك مانع ..
     ودخلنا متجر لين كروفورد .. فى شارع دى فو .. حادثت السيدة يانج .. العاملة بالصينية فعرضت علينا أجمل ما لديها من المعاطف .. وارتدت المدام .. المعطف .. الذى وقع عليه اختيارنا .. وأقبلت وأدبرت به .. فى الممشى .. ثم دخلت به أمام المرايا البللورية ورأته من أمام ومن خلف ..
     ولقد أحسست بها فى هذه اللحظة أكثر جمالا .. وفتنة .. من كل الساعات التى رأيتها فيها .. كانت حلوة آسرة .. فى المعطف السنجابى .. المتناهى فى الروعة ..
     ولقد شعرت فى هذه الساعة بقلبى يتحرك فى أعماقى .. وأدركت أن يدها .. لم تكن تلمس فمى وأسنانى .. ولثتى .. وإنما كانت تلمس قلبى وأنا لا أحس بها ولا أشعر .. وكنت أود أن أحرك يدى .. وألمس كتفها .. وصدرها من فوق المعطف .. ولكنى رددت نفسى عن هذه الرغبة .. وأنا أنظر إليها بوله ..
     وسألتنى :
     ـ هل يروقك .. ؟
     ـ طبعا .. وإنه سيحمل تذكارا جميلا ..
     ـ أى تذكار .. ؟
     ـ سأذكر .. أنك لبسته .. وأنه ضم جسمك ..
     فاحمر وجهها .. وتحركت إلى الطاولة ..
     ولما أخذت البائعة .. تلف المعطف .. سألتنى عن العنوان الذى ترسله إليه فقلت لها :
     ـ فندق الجولدن جات ..
     فابتسمت المدام .. ولكنها لم تنبس .. وكنت أعرف أن هذا الفندق ينزل فيه بعض الفتيات الأمريكيات .. العاملات فى هونج كونج .. فهل تصورت أننى اخترت هذا الفندق لهذا السبب ..؟ احمر وجهى وكنت أود أن أقول لها إنى لا أختلط بأحد .. ولكننى وجدت أن من الخير أن أصمت مثل صمتها ..
     ولفحتنا موجة برد قارسة .. ونحن نسير فى جوار إحدى العمارات الكبيرة ..
     فقلت لها :
     ـ هل تقبلين منى دعوة إلى فنجان من الشاى .. ؟
    ـ إنها .. بلدى .. وأنا .. التى يجب أن أدعوك ..
    ـ أرجوك أن تقبلى دعوتى أولا ..
     ودخلنا مشربا صغيرا .. وجلسنا متجاورين على كرسى صغير من الجلد وأحسست بها أكثر قربا .. وأكثر حنانا ..
     وكانت هناك موسيقى هادئة تنبعث من جرامافون .. وفتاة من جانب قاعة الشاى .. تغنى بالصينية فى صوت هادئ حزين .. وكانت الفتاة جميلة .. ولكننى كنت متجها بكليتى إلى المدام .. فجلسنا نتحدث وكأننا نتناجى لمدة ساعة ونحن لا نحس الوقت ..
     ولقد أحسست وأنا فى القاهرة .. بعاطفة الحب مع فتيات فى مثل سنى .. ولكنه كان حبا عارضا سريعا .. كنت أنساه كلية بعد شهر .. أو أقل من شهر .. ولكن هذه السيدة سيطرت على مشاعرى تماما .. ولقد قابلتها بقلب خال من المشاعر .. فتحولت كل مشاعرى إليها .. وكنت أحب فى الواقع أن تطول مدة علاجى .. إلى نهاية شهر ديسمبر وكنت أستطيع أن أحل مشكلة النقود .. بأن اقترض من تاجر باكستانى فى هونج كونج وكان يتعامل مع أخى عبد الحى .. فى الإسكندرية .. وبينهما حساب متصل .. وأنا لم أكن أعمل شيئا ذا بال يجعلنى أتعجل العودة .. فمنذ فرغت من دراستى الجامعية وأنا أخير نفسى الاستمرار فى الدراسة للحصول على الدكتوراه .. أو أن أساعد أخى فى تجارته ..
     ولم أكن أفكر فى وظيفة الحكومة أبدا ..
     وكانت حالتى الصحية فى الحقيقة تجعلنى أحب هذه الرحلة .. وكنت فى الواقع .. قد أنجزت فى هونج كونج مهمة جليلة القدر لأخى .. فاستطعت أن أحرك بعض نقوده المتجمدة فى بنوك هونج كونج .. وأن أحصل على كثير من نقوده التى كانت فى حكم الضياع ..
***
     ولا أدرى هل أحست الدكتورة يانج بقلبى .. ونحن ندخل الأسبوع الرابع من أول لقاء لنا .. وكانت هونج كونج نفسها .. قد ازدادت فى نظرى جمالا وإشراقا .. وكنت قد قطعتها طولا .. وعرضا .. ورأيت كل مرتفعاتها .. وكل تلالها .. الزمردية .. وكل المباهج التى فيها وكل أنوارها الساطعة .. وبقى علىّ أن أشاهد الريف فى الصين .. وكنت أحن إلى ذلك حنينا لا يدركه العقل ..
     ولما حدثت مدام يانج ..
     قالت :
     ـ إن لى كوخا فى الريف بالقرب من لوو .. وكنت أذهب إليه وأستريح .. ولكنه الآن شبه مهجور ..
     ـ ولماذا لا نذهب إلى هناك لمدة ساعة .. لآخذ فكرة عن الريف .. ؟
     ـ إذن سنذهب .. فى صباح السبت المقبل ..
     وطرت من الفرح .. وخرجنا من العيادة نودع خادمها الأبلة .. وذهبنا إلى مطعم مشهور بالطعام الصينى فى شستر رود .. فتعشينا عشاء شهيا ، ثم جلسنا فى قاعة للشاى هادئة نشرب الشاى ونستمع للموسيقى .. ولقد كانت تبعد بى دائما عن كل الأماكن المزدحمة .. كانت فى حاجة إلى الهدوء والراحة ..
***
    ولما التقينا صباح السبت فى فناء محطة هونج كونج لنركب القطار .. وجدت أن الخادم الأبله يرافقها وكان يحمل حقيبة كبيرة ..
     وكنت أقدر أنه جاء ليودعها على المحطة .. ولكنه ركب معنا القطار ..
     وبعد أربعين دقيقة .. من المزارع الناضرة .. والمناظر الطبيعية الفاتنة بلغنا محطة .. لوو ..
***
     وتجولنا قليلا فى المدينة .. ثم ركبنا سيارة أجرة انطلقت بنا بين المزارع الجميلة حتى بلغنا الكوخ .. وكان عبارة عن حجرة واحدة كبيرة من الخشب وكان مطليا باللون الأحمر وسقفه محدودبا .. وعلى الواجهة رسوم من الخزف ..
وشاقنى الكوخ والمزارع التى على امتداد البصر منه ..
     وكانت أشجار الخوخ والورد والتفاح تغطى الأرض .. وقريبة منا .. والبرسيم .. هو الزراعة الأساسية فى المنطقة وسررت من تقسيم الأرض الهندسى ومن الجداول الصغيرة .. والآبار المتقاربة .. والفلاحات .. يحملن الدلوين على العصا الطويلة .. وكل دلو فى جانب كالميزان .. وكن جميلات مشرقات .. وعلى رؤوسهن القبعات العريضة من الخوص ..
     ووقفت مع شابة منهن أتحدث بالإشارة .. وكانت السيدة يانج .. قد دخلت مع خادمها الكوخ .. ليهيئ لنا مجلسا ويعد لنا الغداء ..
     ولما عادت وجدتنى جالسا بجوار الفلاحة الصينية ..
     فسألتنى :
     ـ بأى لغة تحادثها ..؟
     ـ بالإشارة ..
     ـ هيا لنتجول .. إنك لم تأت إلى هنا لتحادث الفلاحات .. وتجولنا .. وبعد ساعة تغدينا داخل الكوخ .. ثم خرجنا لنتجول جولة طويلة .. وبعد أن تعبنا جلسنا نتحدث تحت شجرة من شجر التفاح .. ثم أخذنا المطر ونحن فى الطريق إلى الكوخ وغرقنا تحت سيل منه .. ولم نكن نرتدى معاطف .. وعندما وصلنا إلى الكوخ كنا مبتلين تماما ..
     وضحكنا لمنظرنا وأشرت عليها بأن ندخل ونجفف ثيابنا .. على النار .. التى أشعلها الخادم فى الداخل ..
     ولكنها طلبت منى أن أدخل أيضا ..
     فقلت لها :
     ـ ادخلى أنت .. أولا .. وجففى ثيابك ..
     ـ وأنت كيف تظل هنا .. تحت الأمطار .. ؟
     ودخلت وسحبتنى من يدى .. وهى تحادث الخادم وعملا ستارا فى جانب من الغرفة وأصبح المكان معدا لها ..
       ودخلت وراء الستار لتخلع ثيابها..
       وتركنا الخادم ليعد لنا الشاى ..
     وخلعت أنا سترتى .. وقميصى ونشرتهما على كرسى .. بجوار النار .. وخرجت هى بقميصها .. واقتربت من النار .. وكانت الرياح تصفر فى الخارج .. والأمطار تتساقط بغزارة والظلام قد أخذ يزحف .. وكانت النار التى فى المدفأة .. هى التى تنير الكوخ ..
     وجلست السيدة يانج مسترخية بجانب النار .. وانا بجوارها .. ورأيتها فى هذه الساعة .. كعذراء فى سن العشرين تستشف المجهول من خلال اللهب ..
     وكانت مسترخية ومغمضة عينيها .. ويسقط اللهب الشاحب .. على الخد والجبين .. والشعر .. فيذهبه .. ويكسوه بلون العسجد ..
     ودخل علينا الخادم بالشاى .. ووضع أمامنا الكوبين ..وفى قعرهما الشاى الأخضر .. ثم الإبريق الذى كان لا يزال ينش منه البخار ..
     وسألتنى .. قبل أن تصب الماء المغلى ..
     ـ إنك تود سكر ..؟
     ـ لا .. سأشربه .. مثلك ..
     وكانت متغطية .. بالبطانية .. لتخفى عنى قميصها ..وأحسبه كان على لحمها .. الطرى .. ورأيت استدارة كتفيها .. وعنقها العاجى .. وشعرها الأسود .. الذى زاده اللهب .. لمعانا وفتنة ..
     وكانت عيناها تبحثان عنى فى النار .. وعن أسرارى وأسرارها .. وأسرار  الحياة .. وأسرار الوجود كله .. وكنت أفكر مثلها .. فى الشىء  الذى جمعنى بها .. وجعلها تأتى إلى هنا لتنفرد بى فى خلوة حالمة .. وأنا الغريب عنها .. المار فى سماء حياتها كما يمر الطيف ..
     ولم يكن هناك أحد بجانب الكوخ .. أو قريبا منه .. كان على ربوة .. منعزلة ..
     ولولا أنها كانت جامدة وقد أماتت السنون كل عواطف الأنوثة التى فيها لتصورت أنها اختارت هذا االمكان .. لتجدد عواطفها وذكريات شبابها ..
     ودخل الليل .. ولم ينقطع المطر ورأينا أن نقضى الليل فى الكوخ .. ولم يكن بقى معنا طعام ولا شراب .. وأحسسنا بالجوع الشديد .. وبعد حديث ومشاورة .. رأت أن ترسل الخادم إلى لوو .. ليأتى لنا بزجاجة نبيذ وبعض الطعام .. والخشب للنار .. ولو أن المشوار طويل .. ويستغرق ساعتين ولكنه خير من أن ننام على الطوى فى هذا البرد الشديد ..
     ومع أن خادمها كان مؤدبا .. جدا .. ولكننى شعرت بعد أن تركنا بالراحة .. وأصبحت السيدة يانج بجوارى وحدها .. وتحت لمساتى .. ورغباتى .. ولكننى لم أقرب منها ..
     وكنت أود أن أسألها :
     ـ ألم تحبى قط بعد زوجك ..؟
     ولكننى وجدت السؤال لا معنى له .. فى مثل هذه الساعة .. لأنها لا يمكن أن تجاوب بصراحة .. وكانت قد التفت كالقوقعة ..
     وكنت أنظر إلى اللهب .. الذى أخذ يتضاءل .. فى النار .. حتى كادت الشرارات أن تخمد ..
     وتحركت واقتربت من الموقد وبحثت عن جذوة .. فوجدتها لا تزال مشتعلة .. ووضعت عليها قطعتين من الخشب وحركت النار .. فاشتعل المكان وتوهج .. ووجدتها ترقبنى بقوة وأنا أفعل هذا ..
     وكان وجهها ساكنا ..
     وأنفاسها تتردد بهدوء ..
     والواقع أننى كنت أبحث عن جذوة فيها هى .. لأحركها .. كما حركت هذه النار ولكن لم أكن أدرى أين أضع أصابعى .. ؟
     ورأتنى أتحرك وأتجه إلى الباب ..
     فسألتنى :
     ـ إلى أين .. ؟
     ـ إنى أنظر إلى المطر وإلى الليل .. فى سماء الصين ..
     ـ ألا يوجد عندكم مطر ..؟
     ـ يوجد .. ولكن ليس بهذا القدر .. إن ما عندنا يعتبر رذاذا .. كنت أنام فى الحقول والأمطار ساقطة .. فلا تبتل ثيابى ..
     ـ هل أنت ريفى .. ؟
     ـ أجل .. وقضيت صباى كله فى الريف ..
     ـ ولهذا تبدو قويا ..
     ونظرت إلى عينيها .. وكانت أكثر اتقادا .. من عينى ..وحركت يدى .. على ذراعها وكانت البطانية لا تزال تغطى صدرها ..
     وسألتها :
     ـ هل تشعرين بالبرد ..؟
     ـ لا .. وإنما أشعر بحاجة .. إلى فنجان من الشاى ..
     ـ هل بقى شاى .. ؟
     ـ أظن ..
     ـ ووضعت الماء فى النار ..
     وشعرت بها خجلى .. وهى تزحف ملتفة .. بالدثار ..
     فتحركت إلى الباب .. واتجه نظرى إلى الخارج .. وعندما تلفت وجدتها .. عارية .. هناك وراء الستار .. ولم أكن أدرى أتريد أن تجفف الملابس الباقية .. أم ترتدى الملابس التى جفت .. ؟
     وتحولت عنها إلى النار .. وكان وهجها .. يغشى عينى .. ورأيت اللهب الأحمر .. يشب ويخبو .. فألقيت بقطع من الخشب .. وتناولت الماء الذى فى الإبريق .. وكان ينش وحملت إليها الفنجان ..
     وكانت قد ارتدت الجونلة .. التحتية .. وأخذت تضع الصدار .. وبدا صدرها تحت نظراتى وتحت ضوء النار ولهبها ..
     ومدت يدها تمسك بالصدار .. فناولته لها .. ونظرت إلى طويلا .. وظللت ممسكا بيدها ونظراتى إلى عينيها .. وكانتا أكثر اتقادا .. من عينى .. وحركت يدى .. على ذراعها .. وسقط الصدار على الأرض ..
    ـ إنك دافئة ..
     ولم ترد وظلت صامتة وشددتها إلى صدرى .. وجذبتنى إلى الفراش وكنت أقبل عينيها وشفتيها وصدرها .. وكل ما يقع تحت شفتى وانطفأت النار التى فى المدفأة .. ولكن جذوتها كانت قد اشتعلت فينا .. وسقطت علينا البطانية التى كانت تستعملها كستار .. فجذبتها فوقنا ..
***
      وتنبهت مدام يانج مذعورة على صرخة حادة خرجت منى .. فقد أحسست فجأة بسكين حادة تمزق ظهرى .. ولما نظرت المدام .. من خلال الظلام .. رأت خادمها .. يجرى منحدرا عن الربوة بسرعة الريح .. وكان قد وضع الشىء الذى حمله من السوق بجوار الباب ..
     وسألت المدام .. وهى تغسل جرحى ..
     ـ إلى أين هو ذاهب .. ؟
     ـ سيعبر القنطرة .. ويذهب إلى الجانب الآخر ..
     ـ ولا يعود .. ؟
     ـ أبدا ..
     ـ منذ متى وهو فى خدمتك ..؟
     ـ إن له حوالى عشرين سنة .. فى بيتنا ..
     ـ إنه جذوة .. مثل هذه الجذوة التى ترينها فى هذا الرماد .. جذوة مشتعلة .. ولكنك لم تحسى بها .. وتلك هى الغفلة الأزلية .. فى المرأة .. وفى طبيعة الكثير من البشر ..
     ـ اسكت .. إن الكلام يؤذيك .. ويجعل الجرح .. ينز ..
     ـ وهل سأشفى ..
     ـ بالطبع ..
     ـ الطعنة .. لم تكن قاتلة .. ؟
     ـ أبدا .. إنها سكين صدئة وجدها فى المطبخ ..
     ـ أحس بأنى سأعيش .. ولكن إن مت .. اجعلى رأسى هكذا على صدرك ..
     ـ اسكت ..
     واحتضنتنى .. أكثر .. وأحسست بشفتيها تبحثان عن الجرح ..
================================
نشرت القصة فى مجلة " الجيل بالعدد 374 بتاريخ  23/2/1959 وأعيد نشرها فى كتاب " غرفة على السطح " سنة 1960
=================================

فهرس

اسم القصـــــة                         رقم الصفحة

امرأة فى الجانب الآخر       .......................   2
ساعة المحطة        .............................    33
الرماد المشتعل      .........         ..... .......   38
جسر الحياة             .............  .............   54
المنارة      ............      ..........  ...... .    66
الوجه الصامت           .........................    71
عند البحيرة        ................................   85
غرفة على السطح   .................          ...    93
المجداف   ..................  ..............  ....  103
التفاحة      ....................................    110
المصباح     .................     .............    117
جذوة فى الرماد       .................  ....        126

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق