الجمعة، 17 أبريل 2015



نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان






 نشرت جميع أعمال محمود البدوى فى العنوان




امرأة فى الجانب الآخر

أقمت فى حى عابدين لأول مرة فى حياتى صيف عام 1940 وكنت فرحا بهذا السكن لأننى حققت أمنية عزيزة كنت أتمناها لنفسى وأنا طالب فى الجامعة ..
وكان سكنى فى بيت جديد بشارع القاصد فى شقة مكونة من ثلاث غرف صغيرة .. وكان صاحب البيت يعنى ببيته عناية تجل عن الوصف .. كان يتفقده فى الصباح والمساء .. ويدور يتحسس نوافذه وجدرانه .. كأنها قطعة من لحمه ..
وكان يقيم فى الدور الأول من المنزل .. ومع أنى أكره المنازل التى يقيم فيها أصحابها .. فإن الرجل بدا لى ونحن نحرر العقد .. كإنسان نادر المثال وتكشفت لى سماحة نفسه .. ورقة طباعه من أول وهلة .. وبغض النظر عن التوافه الصغيرة التى كانت تشغله بشكل مزعج .. وتستحوذ على كل تفكيره .. فقد كان فيما عدا ذلك رجلا حميد الصفات ..
وقد غفرت له طبعه ووسواسه ودخوله كل شقة فى البيت ليتفقد الحنفيات والشناكل .. والأكر .. وألواح الزجاج .. بعد أن أدركت أن هذه العناية التى تركزت كلها فى هذا الشىء الجامد هى العوض عن الحسرة التى استقرت فى أعماقه من عدم انجابه ذرية .. وأصبحت الخيط الذى يربطه بالحياة ..
وكان الرجل ودودا طيب المعشر .. وكان من عادته أن يصعد إلىّ فى أول الشهر ليأخذ الإيجار .. وكنت أشفق عليه من صعود السلالم .. وأود أن أريحه وأترك له الإيجار فى سكنه .. ولكنه كان يرفض هذا ويصر على الصعود .. وتحمل هذه المشقة لأنه فى الواقع كان يريد أن يطمئن .. على الشقة ..
وكنت أبقيه ليستريح ويشرب الشاى .. وحدث فى أمسية من الأمسيات وهو يزورنى كعادته ليأخذ الإيجار .. أن لاحظ لأول مرة أن الشقة متسخة .. ومهملة .. فسألنى وهو يحرك عينيه إلى كل ركن :
 ـ لماذا تركت الشقة هكذا يا صلاح أفندى .. وأين خادمك ..؟
تعددت سرقاته .. فطردته ..
ـ وكيف تعيش هكذا يا بنى ..؟
ـ إنى آكل فى المطاعم .. ولكننى تعبان جدا من نظافة الشقة .. ومن الغسيل ..
ففكر قليلا .. ثم قال :
ـ أترك المفتاح .. يا بنى .. للست .. وأنت رايح .. المصلحة .. الصبح ..
وشكرت توفيق أفندى بقلب حار .. وأنا أودعه على بسطة السلم ..
وفى صباح اليوم التالى .. تركت المفتاح للخادمة الصغيرة زكية التى فتحت لى الباب .. فلما انتهيت من عملى فى المصلحة .. تغديت فى الخارج كعادتى .. ولما رجعت لأستريح فى الشقة وجدتها نظيفة نظافة تامة .. كأن حيطانها .. وسقوفها .. مغسولة بالماء الساخن والصابون .. وجدت الأرضية تلمع .. وزجاج النوافذ .. يتلألأ كالبللور ..
ورأيت جميع ملابسى مغسولة ومكوية .. والأزرار الساقطة ركب بدلها .. وخيطت الفتوق .. والخروق ..
ورتب الأثاث بذوق جميل .. وحتى المجلات القديمة والصحف .. وضعت فى مكان جديد أعد لها ..
وتوارت الصراصير .. والذباب .. من المطبخ .. وأصبح البيت كأنه فى انتظار العروس ..
ونظرت إلى هذا كله .. وأدركت أن خادمتهم الصغيرة لا تستطيع أن تفعل هذا .. وأنه لابد أن تكون الست زوجة توفيق أفندى هى التى تعبت وبذلت هذا المجهود فى يوم واحد ..
ولم أكن قد رأيت هذه السيدة مواجهة مع أنه كان قد انقضى علىّ أكثر من سبعة شهور وأنا ساكن فى بيتهم ..
ولكننى كنت أسمع صوتها .. وأنا أسأل عن توفيق أفندى أو أرى جانبا من وجهها وأنا صاعد على السلم ..
وكانت كما قدرت فى الحلقة الخامسة من عمرها .. متحفظة ترتدى السواد دائما ولا تسرف فى زينتها ..
ومرت الأيام والشقة فى كل يوم تزداد فى نظرى جمالا وبهجة ..
ولم أكن قد شعرت بمثل هذه الراحة قط وكنت لا أدرى كيف أشكر الست بعد كل الذى تكبدته فى سبيلى خصوصا وأنه ليس عندهم أطفال حتى أحمل لهم الحلوى واللعب ..
ورأيت أخيرا أن أحمل لها هدية من الريف .. عندما أسافر إلى قريتى فى أجازة العيد ..
واسترحت بهذا التفكير من خاطر كان يعذبنى ..
ومر أسبوع كامل على هذا المنوال الجميل ..
***
وفى صباح السبت الثانى .. قالت لى الخادمة الصغيرة زكية وأنا أترك لها المفتاح :
ـ الست تقول لحضرتك .. إذا كنت تريد أن تتغدى فى البيت .. سنعد لك الطعام .. وترجوك أن تترك أى مبلغ ..
فتركت خمسة وعشرين قرشا مع المفتاح ..
ولما عدت من عملى وجدت الطعام على المائدة .. والأطباق مرتبة بذوق جميل وعلى المكتب ورقة فيها حساب الطعام .. والمبلغ الذى تبقى منه .. فعجبت لهذا الاقتصاد .. وخلعت ملابسى .. وغسلت وجهى .. وجلست آكل .. وشعرت بجودة الطعام ولذته لأول مرة فى بيتى ..
ثم رفعت الصحون عن المائدة ووضعتها فى المطبخ .. وفى نيتى أن أنظفها فى الليل بعد عودتى من الخارج ..
ولكن الخادمة زكية طلبت منى المفتاح وأنا نازل بعد العصر ..
ولما عدت فى الليل .. وجدت مائدة العشاء معدة .. والفراش مرتبا .. ونافذة غرفة النوم مفتوحة ..
ومرت الأيام على هذا المنوال .. وأنا أشعر براحة تامة .. وصنعت مفتاحا آخر للقفل وتركته لزوجة صاحب البيت .. حتى لا أحملهم مشقة طلب المفتاح فى كل ساعة ..
***
وحدث ظهر يوم .. وكنت قد توجهت فى مهمة مصلحية .. إلى مصلحة الأملاك .. أنى لم أجد الموظف الذى قصدته .. فأخذت طريقى إلى البيت لأستريح حتى يحين وقت الغداء .. ولما فتحت الباب .. ودخلت .. رأيت من باب المطبخ شابة مشغولة بالطهى .. وقد غطى وجهها شعر غزير فاحم .. وكانت فى وقفتها قد أعطتنى جانبا من جسمها ووجهها .. ولمحتها سريعا .. وأنا داخل .. وجعلها صوت الوابور لا تحس بحركة الباب .. ثم لما أحست بى فى الصالة ردت باب المطبخ قليلا .. حتى لا أراها ..
وأدركت أن تقديرى الأول كان مبنيا على أساس خاطىء وأن الذى يطهو لى طعامى ويدير شئون منزلى سيدة أخرى غير صاحبة البيت .. وشعرت بالسعادة الممزوجة بالخوف .. الخوف من وجود شىء فى بيتى لم أكن أتوقع وجوده ..
والشىء المفاجىء يهز الأعصاب ..
فأخذت أنتقل من غرفة الجلوس إلى غرفة النوم لمدة خمس دقائق وأنا أفكر .. ثم وجدت نفسى أفتح الباب الخارجى وأنزل .. شعرت بأن وجودى فى البيت سيضايق الفتاة .. ورأيت أن أفسح لها المجال لتأخذ كل حريتها .. لا سيما أنها لم تكن تتوقع عودتى فى مثل هذه الساعة ..
ولما رجعت للغداء .. وجدت الطعام على المائدة .. فأكلت ونمت إلى الغروب ..
***
ورأيت الفتاة بعد هذا بيومين مواجهة على بسطة السلم .. وكنت نازلا .. وكانت فى طريقها إلى شقة توفيق أفندى .. ورفعت عينيها إلىّ سريعا .. ثم نكست رأسها .. ودخلت مبتسمة .. وقد علت وجهها حمرة الخجل ..
وفى تلك اللحظة وضحت صورتها فى باصرتى .. وأصبح وجهها لا يغيب عنى حتى لو شاهدتها بعد ذلك بسنة فى زحمة النساء فى سوق الغورية .. لقد رأيت نفس الشعر الغزير الفاحم الذى شاهدته من قبل يغطى جبينها فى المطبخ .. ورأيت وجها طويلا خمرى اللون بديع التقاسيم .. وعينيها سوداوين ذابلتين .. كأنهما تشكوان من التعب .. أو من الجوع .. وخدها ناعما .. أسيلا .. يعلوه احمرار .. خفيف ..
وكانت الشفة رقيقة وحالمة .. وقد غطتها بطرف الملاءة السوداء .. التى كانت تضعها على فستانها الأزرق .. ولم تجفل وهى تواجهنى لأول مرة .. بل تمهلت فى خطوها لترانى أكثر وأكثر ..
والواقع أن الشهر الذى مضى دون أن نلتقى فيه مهد لهذا اللقاء وكان يسارع به وجعل بيننا ألفة وشوقا فى الخفاء لا نقدر على كتمانه ..
ولقد استمرت الشهر كله .. تلمس ثيابى .. وترتق فتوقها .. وتركب أزرارها الساقطة .. وتدور يدها على قمصانى وبيجامتى .. فعرفت طولى وعرضى .. وكانت تدخل وأنفاسى فى البيت .. وأدخل فأجد بقايا أنفاسها .. تشيع الدفء فى المكان .. فلما التقت عيوننا لم تجفل .. فقد مهدنا لهذا اللقاء فى الخفاء بشوق مبرح ..
وهى ولا شك قد رأتنى من وراء الشباك .. وأنا سائر فى الطريق .. أو داخل البيت أكثر من مرة لأنها كانت تبقى فى شقة صاحب البيت .. إلى الغروب .. أما أنا فلم أكن قد رأيتها وجها لوجه إلا فى هذه المرة .. وكانت المسألة مفاجأة تامة .. لى .. من كل أشكالها .. كان جمال الفتاة باهرا .. وطلبت من الله أن يبقى هذا المصباح مضيئا بيتى ليخفف عنى ظلام الحرب ..
***
وفى اليوم التالى .. حدثنى توفيق أفندى وهو يأخذ إيجار البيت عن نعيمة دون أن أسأله ..
وعلمت منه أن زوجته كانت ترعاها من الصغر لأنها فقيرة ويتيمة .. وأنه زوجها منذ أربع سنوات لرجل طيب يشتغل بالتجارة .. ولكنه مرض مرضا شديدا لسوء الحظ فى السنة الأولى من الزواج وأقعده المرض .. عن العمل والتكسب ..
ومن وقتها وتوفيق أفندى يشفق على الفتاة ويجعلها تجىء إلى بيته لتساعد الست .. وكان يعينها بمبلغ بسيط لتواجه به الحياة .. فلما سكنت أنا .. ولاحظ حالتى كان أول شىء فكر فيه .. هو أن يرسلها إلىّ لتقوم بشئون بيتى .. رحمة بها وشفقة على حالى ..
وشكرت توفيق أفندى .. وقلت له :
ـ كان من يشتغل عندى من قبل يسرقنى .. يسرق نقودى وملابسى .. يسرق وهو يشترى اللحم .. والخضار وقطعة الصابون .. أما هذه الفتاة فهى نادرة المثال فى الأمانة والتدبير ..
ـ لعلها تعلمت هذا التدبير من حياتها مع زوجها المريض .. علمتها الحياة ..
ـ أنها كاملة الصفات ..
ـ وأنت يا بنى كامل الصفات أيضا .. شاب .. مؤدب .. وفى حالك .. لا تختلط بأحد من الشبان الفاسدين .. ولولا ثقتى فى أخلاقك .. ما أرسلتها إليك ..
فنكست رأسى وأنا أتساءل .. هل يوحى إلىّ هذا الرجل الطيب بالصفات الحميدة لأتحلى بها .. حتى وإن لم تكن هذه الصفات من طباعى .. إن هذا جائز ومعقول من رجل كبير .. خبر الحياة وعرك الناس ..
ومع ذلك فقد كنت أود أن أقول له أن نعيمة تجىء فى غيابى .. وأنى لم أقابلها فى شقتى أبدا .. فأخلاقى لم توضع موضع الاختبار إلى هذه اللحظة .. وأخيرا وجدت ألا ضرورة لهذا الكلام ..
وعندما جاء الوقت الذى فكرت فيه أن أكافىء الفتاة على عملها .. قال لى توفيق أفندى بسماحة :
ـ الذى تعطيه لها ستقبله .. أى شىء ..
فأخرجت من جيبى ثلاثة جنيهات ..
فقال لى الرجل بحماسة :
ـ لا .. لا .. يا ابنى هذا كثير .. إن ماهيتك بسيطة .. يكفى جنيه ونصف .. والست تحت .. تعطيها مثل هذا المبلغ .. وهذا يكفيها لتعول زوجها المريض ..
ولم أر غرابة فى هذا .. لأن الفتاة كانت تعد لى طعام الغداء والعشاء .. بقروش قليلة ..
***
وفى خلال الشهر الثانى .. استطعت أن أرى نعيمة كثيرا .. وأن أواجهها بالحديث .. وأصبحت تأخذ منى نقود الطعام .. بدل الخادمة الصغيرة زكية ..
ولما رأت أننى أعمل لنفسى قهوة فى وقت العصر .. قبل أن أخرج .. أصبحت تجىء بنفسها وتقدمها لى ..
وفى خلال تلك الفترة القصيرة التى لا تتجاوز ربع الساعة .. استطعت أن أعرف الكثير عن حياتها ولمست طباعها عن قرب .. وقالت لى أن زوجها دخل مستشفى القصر العينى .. بعد أن باعت هى وهو كل ما عندهما لعلاجه .. وأنها أصبحت تنام عند توفيق أفندى بصفة مستمرة ..
وشعرت بأن هذه الفترة القليلة التى نقضيها مجتمعين .. فى الحديث والضحك .. قد ولدت شيئا جديدا .. فى حياتى .. فأصبحت أسرع من عملى إلى البيت مباشرة .. وكنت من قبل أتسكع فى الشوارع ولا أجد ما يشوقنى إلى البيت ..
وأصبحت أهتز فرحا .. عندما أراها تعلق مفتاح بابى بسلسلة رفيعة فى عنقها .. وكأنها تحمل مفتاح قلبى ..
ورغم كل هذه المشاعر الدافقة التى أحسست بها فإننى لم أتفوه أمامها بكلمة غزل واحدة .. وسرت معها على الصراط المستقيم ..
وكنت فى الواقع أخاف أن أفقد هذا الكنز .. بعد أن وفقنى الله إليه .. فيعود الظلام وتعود الوحشة إلى بيتى مرة أخرى ..
وكنت أنسى وأنا معها .. الحرب .. والغارات .. والظلام .. وضرب القنابل ..
وعندما كانت تبدأ الغارات فى الليل .. وتطفأ المصابيح .. كنت أسمع صوتها الجميل على السلم .. وهى تضحك ضحكتها الناعمة .. لتشيع البهجة فيمن حولها من النساء اللواتى تجمعن فى الدور الأول وكن يطرن فزعا من مجرد سماع صفارة الانذار ..
وكنت أشكر الله لأنه جمعنى معها فى بيت واحد .. فإذا دك البيت سنموت معا ..
ولقد عجبت لهذا الخاطر .. الذى ربطنى بها فى رباط واحد .. بعد عشرة قصيرة ..
ولم يكن من عادتى أن أفطر فى البيت .. فجعلتنى أفطر .. وأشرب شاى الصباح .. قبل خروجى ..
وكانت تدخل البيت بالمفتاح الذى معها .. فأحس بشمس أخرى بهيجة مشرقة ودافئة فى صباح الشتاء المقرور ..
وأصبحت تعنى بهندامى .. وبدلتى .. وقميصى ورباط رقبتى .. وتعده لى .. حتى أصبحت أسائل نفسى إذا كان زوجها أفنديا مثلى ..
ثم علمت أنه يرتدى الملابس البلدية فزاد عجبى من ذكائها وفطنتها ..
***
وكنت قد أعتدت أن أسهر كل ليلة إلى الساعة العاشرة مساء .. فى مقهى بور فؤاد ويحدث فى كثير من الليالى أن تقع غارة مروعة .. وتسقط القنابل بعنف .. ويدوى قصف المدافع المضادة .. وتلحس الأنوار الكاشفة كبد السماء ..
فكنت أضطر أن أظل فى القهوة حتى تنتهى الغارة فإذا عدت إلى البيت وصعدت السلم .. كنت أجدها ساهرة فى شقة توفيق أفندى .. لتطمئن على عودتى سالما .. فإذا لمحتنى اختفت حتى لا أكتشف أنها كانت ساهرة من أجلى ..
وقد نشأت بيننا ألفة لا يمكن أن يحددها الوصف .. ومع أن المرأة أقدر على كتمان عواطفها من الرجل .. فإن الفتاة أخذت تتحول بكليتها لى .. وبشكل ظاهر .. وأصبحت تقضى فى شقتى معظم وقتها .. وكانت تنزل إلى شقة توفيق أفندى عند الحاجة القصوى ..
وأصبحت بيننا ثقة مؤكدة .. وكنت إلى هذه اللحظة لم ألمس حتى يدها .. وإذا أغفلنا توفيق أفندى الإنسان النادر المثال فى الطيبة الذى أدخلها بيده إلى شقتى .. وزوجها المريض .. فى المستشفى .. فإن الشىء الذى جعلنى أعزها وأحترم طهارتها وعفافها أقوى من هذا كله .. وهو شىء لا يمكن أن يفسره المرء .. أو يحدد مكنونه .. إنه شعور داخلى عارم .. ينزع بالمرء إلى التصوف المطلق والتعفف عن كل ملذات الحياة وإن كانت على قيد شعرة منه ..
ولم يكن هذا ناتجا عما يسميه الناس بالحب العذرى .. فإنى كنت أسخر .. من هذا الحب .. وأهزء بمن يقعون فيه ..
كما أننى لم أكن أخاف الموت فى كل لحظة بسبب الغارات أو أخشى عقاب الآخرة .. لم يكن شيئا من هذا كله يخطر على بالى وأنا أعيش مع الفتاة كما يعيش الأخ مع أخته ..
وإنما رأيت أن أمر بهذه التجربة الشفافة .. وأن أرى تأثيرها على حسى ووجدانى ..
وفى خلال دوامة الحزن التى لفتها على زوجها الذى كان حاله ينقلب كل يوم من سىء إلى أسوأ .. كنت أود أن أزور الرجل فى فراش مرضه .. وأحمل له بعض الهدايا ..
ولكننى خشيت أن تنتابه الوساوس .. إذا تبين أن زوجته ليست فى بيت توفيق أفندى كما كان يعرف وإنما فى بيت شاب أعزب فى الخامسة والعشرين من عمره .. فعدلت عن الزيارة ..
ولقد كانت نعيمة تحبه باخلاص .. وتضحى بكل شىء ليشفى من مرضه .. كانت تسلمه كل ما معها من نقود ليعطيها للتمرجية حتى يشفقوا عليه ويمرضوه .. وبغير هذه النقود كانت تتوقع له العذاب الأكبر ..
ثم ما لبث أن انتابها اليأس لحاله .. وفقدت كل أمل .. وأصبح الرجل هناك .. شبيها بالمرتبة التى يرقد عليها ..
وفى ذلك الوقت كانت الخلية فى داخل نفسها .. تعمل .. وتتكون فى الخفاء لتجعلها تتحول بكليتها لى ..
***
وفى ذات يوم وكنت قد تأخرت فى عملى بالمكتب إلى الساعة الثالثة بعد الظهر وجدتها فى انتظارى .. فى قلق وعلى وجهها العتاب لأنه لم يكن من عادتى أن أتأخر عن الساعة الثانية بعد الظهر .. مهما كانت الأحوال ..
وكانت واضعة طبقا لشخص واحد على المائدة .. فحملت طبقا آخر بيدى وطلبت منها أن تجلس لتأكل معى .. واحمر وجهها ولكنها جلست وأكلت .. ومن تلك اللحظة شعرت بأن جميع الحواجز التى كانت بينى وبينها قد انزاحت إلى الأبد .. وأكلت بشهية ولذة لا حد لهما ..
وقالت لى ضاحكة :
ـ أنها لم تأكل قط .. مع رجل سواى .. لم تأكل حتى مع زوجها ..
وشعرت بفرحة غامرة لقولها .. كأنى أسمع أمتع الأنغام الموسيقية .. وبعد أن رفعت المائدة .. جلسنا نتحدث فى بهجة .. مدة طويلة .. وكانت عذبة الحديث وقد عوضها الله .. عن عدم إتمام تعليمها .. لسانا يتساقط منه الدر ..
ولاحظت نعيمة أنها تأخرت فى شقتى .. فمدت نحوى يدها .. لأول مرة .. وقالت :
ـ نازلة ..
فتناولت يدها .. وكنت أود أن اقول لها : " أبقى إلى العصر " ولكننى تركتها تنزل ..
وشعرت بعدها .. بفراغ رهيب لأول مرة .. فأخذت أروح وأجىء فى الصالة .. وقلبى يحدثنى بأن أنزل .. وأصعد بها مرة أخرى ..
***
وأصبحت كلما فرغت من عملها فى بيتى .. تجلس بجانبى على الكنبة .. ونتحدث .. وكنت أنسى وأنا أحادثها .. العمل الروتينى الممل القاتل الذى كنت أعمله فى المصلحة .. وأنسى آمالى الضائعة .. فأنا الذى كنت أعد نفسى لأكون أستاذ فى الفلسفة .. وأنشىء جيلا من التلاميذ أجلس إلى مكتب صغير .. قذر يعلوه التراب وأمامى مئات من الملفات ..
***
ومرت الأيام المشرقة .. ثم حدث الذى جزعت له نعيمة ..
كانت قد ذهبت إلى المستشفى ضحى يوم الجمعة .. فوجدت زوجها مات من ليلة الأمس ووضعوه دون عناية فى الثلاجة ..
ومع أنها كانت تتوقع موته فى كل لحظة .. ولكن حدوث الموت فعلا .. جعلها ترتعش .. وخارت قواها .. وحارت ماذا تفعل ..
فلجأت إلىّ والدموع .. تشرقها .. ولم تكن لى أية خبرة فى مثل هذه الأحوال .. ولا أعرف شيئا عن الحانوتية .. ومكاتب الصحة .. فى القاهرة .. بل لم أكن أعرف كيف يدفن الموتى ..
ولكننى لم أتراجع .. ولم أجعلها تدرك أننى أشد حيرة وارتباكا منها .. وجعلتها تستريح فى بيتها حتى تتم الاجراءات ..
وعندما دخلت مكتب الصحة .. روعت من الروتين المعقد ومن بطء الإجراءات .. ومن بلادة الموظفين .. وعدم إنسانيتهم .. ومن استهتارهم بالموتى ..
***
وبعد الأربعين أشرت على نعيمة بأن تتخلص من العفش الذى فى مسكنها لأنه لا داعى لأن تحمل نفسها بإيجاره وهى لا تستطيع أن تقيم فيه وحدها ..
ونفذت مشورتى .. وأصبحت تقضى معظم النهار فى بيتى .. وفى الليل كانت تنزل لتنام عند توفيق أفندى ..
ولقد شعرت بعد ثلاثة شهور من وفاة زوجها .. بأننى استطعت أن أجعلها تنسى ماحدث كلية ..
وكانت تشعرنى بأنى أغمرها بحنان منزه عن الغرض .. وأن الفوارق الاجتماعية التى بيننا قد انمحت .. فأصبحت تأكل على مائدتى .. وتجلس بجوارى لنتحدث فى الشرفة .. ونستقبل ضوء القمر ..
وكان يحدث فى كثير من الحالات أن تجلس معى إلى ساعة متأخرة من الليل .. ثم تنزل لتنام .. وتسمع صفارة الإنذار .. فتصعد فى التو مرة أخرى ..
فأسألها :
ـ لماذا عدت .. فى هذه الساعة ..؟
ـ أشعر هنا بالأمان أكثر ..
وكنت فى الواقع أعرف قصدها .. أعرف أنها تود أن تطمئن علىّ .. وكان يؤلمنى أننى لا أستطيع أن أقابل عواطفها بمثلها ..
***
وأصبحنا نخرج إلى السوق معا .. ونشترى الأشياء للبيت .. وكنا نركب عادة الترام أو سيارة أجرة ..
وذهبنا إلى الغورية مرة ماشيين ولاحظت أنها بطيئة فى السير جدا .. فقيدت حركاتى .. واستأت منها .. وكتمت غضبى .. ولكن الأمر زاد .. فقلت لها :
ـ أسرعى قليلا ..
فسألتنى :
ـ أمتضايق من مشيتى ..؟
ـ أبدا .. فقط .. أرجو أن تسرعى قليلا ..
ـ لا أستطيع أن أسرع .. أكثر من هذا ..
ـ كما تشائين ..
وظهر على وجهها الغضب ..
وعجبت لغضب هذا العصفور الجميل .. وتحوله من الرقة إلى الغضب فى ثوان قليلة .. وبسرعة ضحكنا .. عدنا نضحك ..
ولما رجعنا إلى البيت .. وقبل أن أخلع بدلتى قرع والدى الباب .. وجعلتها تختبىء فى المطبخ .. حتى دخل غرفة الجلوس .. ثم انسلت ونزلت إلى شقة توفيق أفندى ..
وكانت هذه أول مرة يزورنى فيها والدى دون أن يخطرنى برسالة ..
***
وعندما كان يزورنى والدى فى المرات السابقة كنت أطير من الفرح .. ولكن فى هذه المرة لم أفرح .. لأنه سيحرمنى من رؤية نعيمة وكنت أخافه .. ومع أنه لم يضربنى قط .. ولكننى كنت أرتعش من عمل أى شىء لايوافق رغبته .. وكنت أخاف أن أظهر أمامه بأن فى بيتى امرأة تقوم على خدمتى .. لأنه لا يمكن أن يصدق أنها أكثر من محظية ..
واختفت نعيمة .. وأصبحت لا تستطيع أن تصعد إلى شقتى .. وشعرت بألم مبرح ..
وفى الصباح أخذ والدى .. يعنفنى بشدة لأنه لم يجد خادما يقدم له الشاى ..
وكنت أود أن أجعله يكف عن صياحه .. وأقول له أننى أعيش الآن منعما كالأمراء ومتمتعا بكل المباهج فى بيتى .. ولكننى خفت منه .. ونزلت وجئت له بالشاى .. من شقة صاحب البيت ..
وأصبحت خادمتهم زكية تقدم له الشاى كل صباح لأنه من لوازمه .. وبغيره لا يستطيع التحرك من الفراش ..
كان يقول لى كلما رأى الخادمة :
ـ يا صلاح يا ابنى ابحث لك عن خادم .. ولا تعش هكذا .. عيشة كلاب ..
وكنت ابتسم ولا أستطيع أن أرد .. وأتركه بعد أن يشرب الشاى .. وأذهب إلى عملى .. على أن أقابله فى العصر .. فى القهوة التى اعتاد الجلوس فيها كلما جاء إلى القاهرة ..
وكان يتحتم علىّ أن أصاحبه فى سهراته الليلية .. إلى أن يسافر .. خصوصا فى هذه المرة .. وفيها الغارات .. وظلام الحرب ..
وكان كلما جاء إلى القاهرة يرسلنى لأبحث له .. عن الشيخ رجب فى بولاق .. وكان الشيخ رجب سميره ورفيقه فى كل جولاته فى القاهرة ..
وكان رجلا عجوزا أبيض القلب .. وعلى الرغم من تقدم عمره فإنه كان خفيف الحركة سريع المشية .. وكان يعرف كثيرا من البيوت الكبيرة فى القاهرة .. ويعرف أسماء كل العائلات الكريمة ..
وكان يقول لوالدى فى كل مرة .. أنه عثر له على كنز مخبوء عن العيون .. على عروس عديمة النظير .. ومرة تكون أرملة وثرية .. وعاقرا .. ومرة تكون عذراء ليس لها مثيل .. فى الجمال ..
ولكن والدى كان يرجع إلى سمالوط .. دون أن يقدم على الزواج أو يتقدم خطوة .. وكنت أعرف أنه يحرص على ألا يأتى لأخى عبد الحميد .. وكان صغيرا فى المدارس الابتدائية بزوجة أب .. وما دامت عمتى رقية تقوم بشئون البيت فلا داعى للزواج ..
ولكن فى عصر يوم وكنا قد تغدينا فى الخارج متأخرين ورجعنا إلى البيت لنستريح ..
قال لى الشيخ رجب وهو مسرور :
ـ لقد وجدنا عروسا جميلة لوالدك ..
ـ صحيح .. أين ..؟
ـ هنا .. فى بيتكم ..
ـ فى بيتنا .. أبدا .. لا توجد عرائس فى البيت ..
ـ بنت صاحب البيت .. يا سيدى .. شابة لطيفة .. ومؤدبة .. ومثلها يعيش فى سمالوط ..
وضحكت ..
ـ لماذا تضحك ..؟
ـ لأن صاحب البيت ليس عنده بنات .. ولا أولاد ..
ـ من هى البنت الحلوة .. الطويلة .. التى عندهم إذن ..؟
ـ إنها قريبة الست .. ومتزوجة ..
وضحك والدى ..
ـ فلتت منك هذه المرة .. يا شيخ رجب ..
واصفر وجهى ..
وكنت فى الواقع أتحايل على رؤية نعيمة فى غفلة من والدى كلما أتيحت لى فرصة ..
***
وكان الشيخ رجب يرافق والدى فى كل جولاته من الصباح ويظل معه حتى يعود به إلى عابدين فى آخر الليل .. وبعد أن يستريح قليلا فى بيتنا يعود إلى بيته .. لأنه يرفض أن يبيت عندنا ..
وذات ليلة .. امتد بنا السهر فى البيت إلى ساعة متأخرة حتى انقطعت المواصلات .. وكان الجو شديد البرودة .. فأشفقت على الشيخ المسكين .. وهو نازل .. فى هذا الزمهرير وناولته أجرة التاكسى إلى بيته ..
فرد لى النقود وقد بدا على وجهه الغضب ..
ونزل مسرعا ..
ولما حدثت والدى .. قال مبتسما :
ـ يا ابنى أنك لا تعرف الناس .. أنه يموت من البرد والجوع ولا يأخذ مليما واحدا من مخلوق .. وتأكد أنه سيذهب إلى بولاق .. ماشيا على رجليه فى هذا البرد النازل وليس فى جيبه مليم واحد .. لأنه لا يقبل حسنة من إنسان ..
وتندت عيناى بالدمع .. لأننى لم أكن أعرف الرجل .. ولم أكن أعرف على التحقيق كيف يعيش مثل هذا الأبى المسكين ..
***
وفى صباح الجمعة قال لى والدى أنه مسافر فى المساء .. وصلى الجمعة فى سيدنا الحسين .. وزار الأسياد ..
وخرجنا فى العصر .. ليشترى حاجاته .. وكان يريد أن يشترى حقيبة ليضع فيها ما يشتريه .. ولمحنا محلا يبيع الحقائب فى شارع إبراهيم .. فدخلناه .. وكان صاحبه أجنبيا وكان لا يغالى فى الأسعار رغم ظروف الحرب .. وبضاعته جيدة .. فابتاع والدى منه حقيبة .. ورأى محافظ من الجلد .. ولما عرضها عليه الرجل .. لم يجد والدى من بينها بغيته .. وأراه المحفظة التى فى جيبه ليصنع له واحدة جديدة مثلها ..
فقبل الرجل على أن نأخذها منه بعد عشرة أيام .. وأعطانى والدى الايصال بعد أن دفع نصف الثمن لآخذ به المحفظة وأرسلها له ..
***
وسافر والدى .. فتنفست الصعداء ..
وعادت إلىّ نعيمة .. بعد غياب ستة أيام .. ونظرت إلىّ وفى عينيها الشوق والصفاء والرقة التى توجد فى عين الأنثى عندما تغيب عن حبيبها .. وقالت بعذوبة :
ـ وحشتنى جدا ..
وكنت أود أن أرد عليها .. بقبلة حارة على فمها .. ولكننى كتمت عواطفى .. واكتفيت بأن أمسكت بيدها .. وضغطت عليها بحرارة وشوق ..
وجلسنا فى الشرفة .. واتفقنا على أن نذهب فى صباح الجمعة المقبل إلى القناطر الخيرية ..
***
وقضينا النهار كله بين الحدائق .. جالسين على العشب .. ونحن لا نحس بالوقت وتذكرت أنشتين .. ونظرية النسبية وآمنت بعبقرية العلم .. فقد مر الوقت كأنه لحظات حقا .. ولقد مرت أكثر من خمس ساعات وأنا جالس بين يديها فى وضع واحد لم أغيره ولم أشعر بالتعب .. وكنت أسمع صوتها .. كأنه تغريد البلابل .. التى على الأشجار حولنا .. ومع أنها محدثة عذبة الحديث .. ولكننا قضينا معظم الوقت فى عبادة صامتة ..
ولقد ألقت ملاءتها .. جانبا .. وحلت عصائب رأسها .. وخلعت حذاءها وجوربها .. وسارت حافية على العشب الندى .. وبدا إلىّ أنها تتهيأ للاستحمام فى الغدير .. عندما رأيت ساقها العارية لأول مرة .. ولم أحول وجهى لأتقى الفتنة فى هذه المرة .. بل نظرت إليها طويلا .. ووجهى متقد ..
فسألتنى بتؤدة كعادتها :
ـ مالك ..؟
ـ لاشىء .. وإنما رأيت هنا شيئا غريبا لأول مرة ..
ـ ما هو ..؟
ـ هذه العربة الصغيرة " التروللى " التى يدفعها الإنسان على القضبان .. إنها غريبة .. وليس الغريب فى الذى يدفعها .. وتنقطع أنفاسه .. وإنما فى الإنسان الذى يركبها ..
وابتسمت ولم تعقب .. واحمر وجهها لأنها لم تستطع أن تجارينى فى الحديث لأنه ارتفع عن مستوى تفكيرها ..
وفى الغروب أخذنا الطريق إلى محطة السكة الحديد .. وانتظرنا أكثر من ساعة وجاء القطار أخيرا .. وكان كئيبا .. ومزدحما بالركاب .. فركبنا فى عربة قذرة من عرباته الخلفية ..
ولم تكن فيه إضاءة اطلاقا .. كانت كل المصابيح مرفوعة من سقف العربات .. فجلسنا ملتصقين فى الظلام .. وبعد ثلث ساعة من مغادرة القطار المحطة توقف .. وطال الوقوف .. وسمعت الركاب يقولون :
ـ غارة ..
ولم نسمع صفارة الإنذار .. أو صوت طائرة .. ولكننا صدقناهم .. لأن الغارات كانت متتالية فى ذلك الوقت ..
ولما طال انتظار الركاب .. ويئسوا من تحرك القطار أخذوا ينزلون منه ..
فغيرنا المكان .. وجلسنا قريبا من النافذة .. ننظر إلى السماء .. وكانت تتشقق بالغمام ..
وكان الصمت يخيم .. والعربة مفتوحة .. وأخذ بعض الركاب يتحدثون .. ثم كفوا عن الحديث وخيم الصمت المطبق .. وخيل إلينا أن السائق ترك القطار أيضا .. وكان من بقى من الركاب منكسى رءوسهم كأنهم ينتظرون المصير ..
وفجأة بدأ شىء يلمع فى السماء .. كالشهب .. وتأججت بالنيران لمدة خمس دقائق كاملة وخيل إلينا أن الجحيم قد أحاط بنا لهيبه ..
وشعرت بجسم نعيمة يرتجف .. ويلوذ بى فشددتها إلى صدرى ..
وفى خلال دوامة من العواطف .. طوقتها وقبلتها فى فمها بعنف ..
وانثنت بعد أن أفاقت من طعم القبلة تدفع سوالفها .. وتنظر فى جوف العربة .. ثم سمعتها تقول :
ـ لقد تركونا وحدنا ..
فنظرت فلم أجد فى العربة سوانا .. ولم أنتهز هذه الفرصة .. لأقبلها مرة أخرى .. بل جلست صامتا فى مكانى .. وقد أدركت تماما فى هذه اللحظة صدق من قال أنه لا يمكن أن يحدث شىء فى الحياة مرتين على ترتيب واحد ..
ولما بلغنا القاهرة .. سبقتنى هى إلى البيت .. لأنها كانت قد قالت لزوجة توفيق أفندى أنها ذاهبة إلى زيارة قريبة لها فى حلوان ..
وجلست على القهوة إلى الساعة العاشرة .. ثم أخذت طريقى إلى البيت ..
وقبل أن أخلع ملابسى .. فتحت نعيمة الباب بالمفتاح الذى معها .. ودخلت واستقبلتها بين ذراعى ..
***
وبعد أسبوعين .. تزوجنا .. وشهد توفيق أفندى على العقد .. وتم كل شىء بمنتهى البساطة .. ولم نغير حتى ثيابنا .. وكتمت الخبر عن والدى وأهلى فى القرية ..
وقدرت أسوأ الاحتمالات .. إذا علم بالخبر بعد شهر .. أو سنة .. فإنه سيغضب ويقاطعنى .. وقد يحرمنى من الميراث ..
وأنا فى الواقع لست فى حاجة إلى شىء منه .. لقد استكفيت بنفسى ..
***
وذات صباح زارنى فى مكتبى عبد الرازق أفندى معاون محطة سمالوط .. وكان فى أجازة قصيرة بالقاهرة .. وقال لى مبتسما :
ـ والدك غضبان منك .. فارتجفت وتصورته قد علم بزواجى من نعيمة .. وأدركت أن العاصفة بدأت تهب ..
وسألته وأنا مضطرب :
ـ وما هو سبب الغضب .. إنى لم أفعل شيئا ..؟
ـ أين المحفظة ..؟
ـ هل تتصور أننى نسيتها .. لقد مررت على المحل مرتين فوجدته مغلقا ..
ـ وتركت الموضوع ..؟
ـ أبدا .. سأمر اليوم وأعرف السبب .. وكلمنى أنت فى التليفون بكره أو بعده قبل ما تسافر ضرورى ..
***
وكان ضوء الشارع الكبير .. كابيا .. وشاحبا .. وأنا أسير فيه وحدى .. ولا يعترض طريقى إلا السكارى من جنود الحلفاء .. كانوا يسيرون صاخبين معربدين .. ويحتكون بالمارة المسالمين .. ويخطفون طرابيشهم .. ولذلك ابتعد الجمهور عنهم .. وعن طريقهم .. وعن الأماكن التى يسهرون فيها ..
ولما اقتربت من المحل وجدته مفتوحا ولكننى لم أجد الخواجة صاحبه .. الذى قابلنا فى أول مرة .. ووجدت غلاما مصريا على البنك .. فسألته :
ـ أين الخواجة ..؟
ويبدو أنه كان هناك شخص آخر سمع كلامى .. فأطل من شرفة المحل الداخلية .. وسأل :
ـ من الذى يسأل عنه ..؟
ـ أنا .. جئت من أجل المحفظة ..
ـ أية محفظة ..؟
    ونظرت إلى السيدة التى وجهت إلىّ هذا السؤال باستخفاف .. لأنه لايمكن أن نتفاهم وهى متخذة هذا الوضع ..
ولاحظت نظرتى فاستدارت بخصرها .. وهى تقول :
ـ لحظة من فضلك ..
وسمعت أقدامها السريعة على السلم الخشبى الضيق ..
وأعطيتها الايصال دون أن أنطق بحرف .. فتناولته منى وذهبت إلى ناحية من الدكان وأخذت تبحث فى الأدراج .. واستطعت من خلال حركتها أن أملأ نظرى منها .. كانت فى سن الأربعين متوسطة الطول .. ممتلئة الجسم فى رشاقة .. وترتدى جونلة وبلوزة .. من لون سنجابى واحد .. ويتدلى من شعرها الأسود جذوتان على جبينها .. وكان العنق عاريا مثل ساقيها وفى بياض العاج .. والأذن الصغيرة التى من ناحيتى مغطاة ببعض الشعر المتدلى من رأسها ..
وبدت الخيبة على وجهها .. وهى تترك الأدراج .. وتبحث فى مكان آخر ..
ثم تحدثت وهى فى مكانها بالإيطالية .. ورد عليها شخص لم أره أولا لأنه كان متخفيا فى الجزء الداخلى من المحل .. ثم ظهر بعد لحظات وهو يرتدى المريلة الجلدية .. وكان عجوزا .. لا يكاد يتماسك .. وأشارت له السيدة ثم طلعت إليه وعادت إلىّ وعلى وجهها الأسف .. وهى تقول :
ـ تسمح تمر غدا .. أعطنا فرصة أخرى للبحث ..
ـ وأين الخواجة ..؟
ـ إنه فى المعتقل ..
قالتها بكل بساطة .. كأنها تقول ذهب إلى الإسكندرية .. أو ذهب فى مشوار ليتنزه ..
وقلت لها عندما أعادت إلىّ الإيصال :
ـ أبقيه معك .. ليسهل عليك البحث ..
ـ ربما ضاع ..
ـ فداك ..
فبدت بسمة مشرقة على الشفة المكتنزة .. وركزت عينيها لحظات .. فى عينى .. ثم استدارت ودخلت وراء البنك .. وحييتها وانصرفت ..
***
وفى اليوم التالى جئت فى نفس الميعاد .. فوجدتها معدة المحفظة فى كيس أنيق ..
وأخرجتها من الكيس لأفحصها .. فوجدتها متقنة الصنع .. وفى غاية من الجمال ..
وسألت السيدة :
هل هذا جلد لازار ..؟
ـ طبعا ..
ـ حقيقى ..؟
ـ حقيقى بكل تأكيد ..
ـ هل أنت خبيرة فى الجلود ..؟
فضحكت وقالت :
هذه صناعة زوجى .. وأنا معه من عشر سنوات .. أقلب فى الجلود .. وأمرسها بأصابعى .. وأميز كل أصنافها ..
ـ هل أنت زوجة الخواجة الذى فى المعتقل ..؟
ـ أجل ..
ـ وإيطالية مثله ..؟
ـ لآ .. إننى رومانية ..
ـ ولكنك تتحدثين الإيطالية بطلاقة ..
وابتسمت ..
ـ إنها لغة زوجى ..
ـ لم أرك المرة الماضية ..
ـ ربما كنت فى السينما ..
ـ تحبين السينما ..؟
ـ بالطبع ومن الذى لا يحبها ..؟ ولكن بدأنا نغمر .. بأفلام الدعاية للحرب وهى أفلام سخيفة ورخيصة ..
ـ كل هذا سينتهى ..
ـ بالطبع .. ما دمت أنا وأنت .. نريدها أن تنتهى ..
وأعجبتنى هذه الكلمات منها .. كانت تدل على عقل نير ..
وأخرجت الجنيه الباقى ووضعته على البنك .. فأسقطته فى الدرج بحركة سريعة ..
وقلت لها .. وأنا أنظر من خلال الزجاج إلى معروضات المحل ..
ـ هل يمكن أن أجد عندكم .. حافظة مفاتيح كبيرة ..؟
ـ أجل عندنا ..
ووضعت أمامى أكثر من واحدة .. ولكننى وجدتها لا تعجبنى ..
ٍـ إننى أريدها بسوستة .. وجلد من هذا ..
ـ آه .. فهمت .. يمكن أن نعمل لك واحدة وتخلص بعد أسبوعين ..
ـ ولماذا بعد أسبوعين .. هذا كثير ..
ـ ليس عندنا عمال .. إن العمال ذهبوا ليعملوا فى الجيش البريطانى فاعذرونا ..
ـ زيادة الأجر تغرى ..
ـ بالطبع .. إننا فى حرب .. والكل يجرى وراء الفلوس .. أنا لا ألوم أحد ..
وبعد أن خرجت من المحل .. فكرت فى أن أشترى من عندها حقيبة يد لنعيمة .. فقد رأيت حقائب جميلة ..
وكانت الساعة لم تتجاوز الثامنة مساء فرأيت أن أتجول ساعة فى قلب المدينة ..
وكان يلذ لى المشى فى الليل وأجد فيه رياضة عظيمة ..
وكنت أحب أن أذهب مع نعيمة إلى السينما .. ولكن السينمات فى القاهرة كانت قد انقلبت فى الظلام إلى مواخير بسبب الحرب .. وبسبب وجود جنود الحلفاء وكانت الحرب قد طالت .. وطال الظلام .. وطال الفقر والجوع .. واستولى اليأس على النفوس .. وسئم الناس من كل شىء ..
وكانوا من قبل يصفقون للألمان .. لا حبا فيهم .. ولكن ليخلصوهم من الإنجليز ..
فلما طالت الحرب .. أستولى اليأس على النفوس وخيم الظلام ..
وكان كل شىء يجرى فى عجلة الحرب وفى دوامتها .. وكان نساء الإفربج يستقبلن العساكر الإنجليز .. والأمريكان على أبواب المعسكرات ..
وكل شىء يتغير فى زمن الحرب .. والحضارة تتحطم والقيم الأخلاقية تنهار ..
ولم يكن المصريون .. قد اشتركوا فى الحرب .. أو لهم بها شأن .. ولكنهم أكتووا بنارها .. وسقطت عليهم القنابل .. وجاعوا وتعذبوا بسببها ..
وفكرت وأنا سائر فى الطريق فى وطنى وفى نضاله الجبار ضد الإنجليز وأضرابهم من المستعمرين .. وكنت أجد العزاء والسلوى فى أن بعض النفوس لا تزال حية .. وتناضل ببسالة لنتخلص من عبودية الاستعمار ..
وشاهدت وأنا أعبر ميدان مصطفى كامل فتاة مصرية يبدو عليها الجمال .. والفقر واقفة مع شاب قصير يرتدى جلبابا وعلى رأسه طاقية .. وكان يحادثها بصوت خافت ثم رأيته يركبها " تاكسى " مع ثلاثة من العساكر الإنجليز .. وتفطر قلبى لهذا المنظر .. وقرنت هذا المنظر المؤلم بحالة عامة وهى أن الحرب تأكل الفقراء من الناس وعليهم يقع عبؤها الأكبر ..
***
ومرت الشهور ..
وذات ليلة ..
وجدت نعيمة فى الفراش على غير عادتها .. فقد كانت تستقبلنى فى لهفة وأنا طالع على السلم .. وسألتها :
ـ مالك .. نايمة بدرى ..؟
ـ تعبانه .. وحاسة بدوخان .. وتقيأت كتير الصبح .. بعد أنت ما نزلت ..
ـ لماذا .. أكلت حاجة وحشة ..؟
واحمر وجهها وأجابت بابتسام :
ـ أبدا .. الست هدى .. قالت هذه علامات الحمل ..
وتغير وجهى ووجمت وكانت تتوقع سرورى من الخبر ..
فوجمت لما رأتنى أظهر الاستياء .. وأنا لا أستطيع أن أخفى الانفعال عن وجهى ..
وسألتنى .. وقد تغير لونها :
ـ مستاء ..؟
ـ أبدا .. وإنما بدرى على الأطفال .. وأنت عارفه أن والدى .. قطع عنا معونته بعد أن علم بزواجى .. وماهيتى صغيرة .. وغلاء الحرب طحنتنا ..
ـ لا تبتئس .. يمكن .. ينزل ميت .. أو يمكن ألا يكون موجودا .. أصلا .. ربما تكون الست هدى مخطئة .. يعنى هى دكتورة ..
وسكت .. وقضينا أول ليلة صامتة وحزينة منذ زواجنا ..
وبعد هذا بأربعة أيام .. علمت أنها أجهضت نفسها وحدث لها نزيف حاد .. فنقلناها إلى المستشفى فى الحال ..
وكانت حالتها خطيرة فتركتها فى المستشفى بضعة أيام حتى تسترد أنفاسها ..
***
وخرجت من المستشفى فى الليل وحدى .. وأنا حزين وشاعر بالتعاسة .. فقد كنت مهموما وأحمل وزر حماقتى .. فأنا الذى جعلتها تجهض نفسها .. وتتعرض للهلاك ..
وفكرت فى خطئى وسوء تقديرى للأمور فالشىء الذى كان منى .. كان سيفرحنى ويفرحها ..
وربما يفرح والدى فيرضى عنا .. وتنزاح عنا هذه الجفوة .. وتعود المياه إلى مجاريها ..
وكان حزنى على نعيمة .. لأن الحادث مزقها .. وقطع نياط قلبها وهو الذى جعل مرضها يطول .. فقد ظلت فى المستشفى والطبيب لا يسمح لها بالخروج ..
وكنت أذهب إليها بعد خروجى من عملى مباشرة وأظل فى المستشفى إلى الساعة السابعة بعد الغروب ..
وأخرج فى الليل وحدى فأذهب إلى القهوة .. وأجلس وحيدا أفكر .. فى أحزانى ..
وكانت الوحدة قد ثقلت علىّ بعد أن طال مرضها .. وكرهت المستشفى .. والتردد عليه .. وكرهت الزواج .. وكرهت الحياة كلها ..
وفى ليلة من الليالى .. وكنت أتجول .. فى الشوارع هائما على وجهى كالضال .. وجدت نفسى .. أتجه إلى محل الحقائب .. ولم أكن أرغب فى شراء أى شىء ولكننى دخلت ..
ووجدت زوجة صاحب المحل جالسة على كرسى وراء الحاجز .. ولا أحد فى المحل .. سواها والغلام المصرى الذى معها .. وكان النور ضعيفا فى الداخل .. والخارج ..
واستقبلتنى بابتسام ..
وطلبت حزاما .. فجاءت به سريعا .. ووضعته على الطاولة ..
ووقفنا نتحدث فى كثير من الشئون .. ثم تركتها وأنا أشعر بأن أحزانى خفت نوعا ..
***
وبعد يومين مررت على الدكان .. وبعد أن تجاوزته .. عدت ودخلت ..
وقبل أن أقول لها أى كلام حدثت غارة ..
فأطفىء النور .. وخرجنا إلى الشارع وأمرت الغلام الذى كان موجودا فى المحل بأن ينزل الباب ..
وبعد أن أغلقت المحل .. سرنا بضع خطوات فى الشارع .. ولكن الغارة اشتدت .. ورأينا شظايا المدافع المضادة تسقط بجوارنا ففزعنا .. وكان الطريق مكشوفا .. فملنا إلى شارع آخر .. ووجدنا ونحن نسير فيه سينما .. بجوارنا .. فدخلناها لنحتمى بها .. وشعرنا بالأمان ..
وبعد ثلث ساعة .. انتهت الغارة .. واشتغلت السينما .. فرأينا أن نشاهد الفيلم ..
وجلسنا فى البلكون .. وكان الفيلم مثيرا .. يكثر فيه العناق والقبل .. وتكشف فيه البطلة عن مفاتن جسدها ..
وكانت " روسانا " تنظر إلىّ بعد كل قبلة مبتسمة ..
ورأينا فى الصفوف التى أمامنا عسكريا من عساكر الإنجليز يعانق فتاة بجواره بحرارة .. وقد ترك الشاشة .. وانصرف للفتاة ..
وقد أثارتنا هذه المناظر .. فتشابكت أيدينا وتعانقت ..
وخرجنا من السينما ونحن نحس أنها أشعلت فينا النار الخامدة ..
ورأيت أن أوصل روسانا لمنزلها .. فركبنا تاكسى إلى شارع النمر .. وودعتها على الباب .. ولكن قبل أن أتحرك من باب العمارة دوت صفارة الإنذار .. فألحت أن أبقى معها .. حتى تنتهى الغارة .. ووقفنا فى المدخل بضع دقائق ولما طالت الغارة .. صعدنا إلى مسكنها .. وكنا نستطيع أن نشعل أى مصباح .. لأن النور كان لا يتسرب أبدا إلى الخارج ..
ولكن رأينا أن نبقى فى الظلام ..
وجلسنا فى الصالة .. متجاورين على أريكة واحدة ..
ورفعت بصرى .. فلم أر فى الظلام خلاف وجهها الأبيض .. وكنا لانزال نسمع فى الخارج ضرب القنابل ..
وجلست صامتا ساكنا وأنا أخشى أن أبدى أية حركة فتتصور أننى رافقتها لأتقاضى ثمن تذكرة السينما ..
ومن خلال صمتى تفجرت رغباتى مرة واحدة .. وأدركت أننى أشتهى هذه المرأة وأننى من اللحظة التى رأيتها فيها أحببتها ..
وكنت أشتهى أن أضمها إلى صدرى وأن أقبلها .. ولكننى خشيت أن أبدأ بأول حركة .. وقد جعلتنى عواطفى المكبوتة فى صدرى .. أهتز وأرتعش .. والظاهر أنها أحست برعشتى .. فسألتنى :
ـ أتخاف ..؟
ـ من ماذا ..؟
ـ من الغارة .. والموت ..
ـ عندما كنت طفلا صغيرا فى القرية كنت لا أفكر فى الموت .. أو فى الحروب .. والغارات .. ولكن لما جئت إلى المدينة .. جعلتنى أفكر فى الموت .. والغارات والعذاب .. والأشلاء التى تتمزق من الشظايا .. وفكرت فى الموت من حوادث السيارات .. المنطلقة .. ومن كل خطوة فى المدينة .. قد يأتى الموت ..
ـ وفى القرية .. لا يأتى الموت ..؟
ـ قد يأتى .. ولكنى لم أكن أفكر فيه ..
وصمتنا .. فقد كان هناك شىء مروع يحدث فى الخارج .. كان البيت الذى بجوارنا قد انقض على سكانه ..
فخرست .. وحبست أنفاسى .. وعقب الدوى سكون مطبق .. ولكن لم يتحرك أحد منا ولم يتحدث .. وكنت أفكر بعد هذا الهول الذى رأيته أن رجلا ما قد أشعل الحرب .. مثل هتلر .. ولكن لا توجد قوة بشرية تجعلها تستمر بمثل هذه الفظاعة ما دمنا لا نريدها ..
فالحرب من صنعنا فى الواقع ومن عمل البشر .. وهى جنون مطبق ودمار شامل ..
وما دمنا لا نستطيع أن نوقف هذا الدمار .. فنحن أعجز من أن نحرر أنفسنا من الذين يدفعوننا عليها .. دفعا .. فالاستعباد البشرى سيظل سرمديا .. فقط هو يأتى فى كل فترة من التاريخ على صورة ما ..
وتحت هذه الدوامة من الخواطر .. تنبهت إليها .. وهى تمسح على يدى .. وكانت باردة فأعادت إليها الحرارة ..
ونظرت إلى عينيها فى الظلام فوجدتهما تتألقان .. كانت عيناها مضيئتين .. وكانت متعطشة لشىء أشتهيه .. مثلها ولكننى أخاف منه ..
وأحسسنا كأن شيئا يحرك الباب .. فنهضنا معا واقتربنا منه .. ولما التصقنا به لم نجد شيئا .. وكانت قريبة منى فلامست يدى يدها .. كنا كأننا نبحث عن شىء واحد معا فوجدناه فى الحرارة الدافقة التى فى أيدينا ..
وشعرت بها وهى تقترب منى بصدرها .. فطوقتها وعصرت جسمها بذراعى وقبلت ما وقع تحت فمى فى الظلام .. صدرها .. وعنقها .. وشعرها .. وكل شىء وأطلقت كل عواطفى المكبوتة مرة واحدة ..
ووجدتها تجذبنى إلى شىء مفروش على الأرض ..
***
وأصبحت ألتقى بروسانا .. كل يوم .. استولت على مشاعرى كلها .. ووجدت فيها الشىء الذى أبحث عنه .. ولم أكن أدرى .. أمرض نعيمة وكونى السبب فيه لأنى جعلتها تجهض نفسها .. هو الذى دفعنى إلى أحضان هذه الرومانية وأنها كانت السلوى لأحزانى .. فى ساعة عصيبة مرت على حياتى .. وأنا شاب غر .. لم تصهرنى الأحداث .. وطارت أعصابى .. فزعا من أول حادث ..
أم أن الحب الشفاف .. الذى لازمنى شهورا طويلة .. ونعيمة معى تحت سقف واحد .. كان لابد أن يتحول .. إلى بوهيمية صارخة منطلقة .. مع روسانا .. بعد أن أفزعتنا القنابل ..
فالذى حدث من عمل الحرب .. وبسببها .. وبسبب الحرب .. كنت أحمل وزرين وأمشى بهما .. فى الشارع .. أمام الناس .. أخون زوجتى وهى مريضة .. وأخون رجلا .. محبوسا فى المعتقل ..
وكنت أخدر أعصابى .. وأتلمس المعاذير لنفسى بأن زوجتى بفعلتها هى التى دفعتنى إلى أحضان امرأة أخرى ..
وروسانا .. إذا لم تكن قد التقت بى أنا فلا بد أن تذهب لرجل آخر .. فلست المسئول عن سقوطها .. وأنا لم أشعل الحرب .. ولم أعتقل زوجها ..
وأعطتنى روسانا مفتاح بابها .. حتى أذهب إليها فى أى وقت أختاره من الليل ..
وكانت تغلق المحل فى الساعة الثامنة تماما .. ثم يصبح الليل كله لنا ..
وبعد أسبوع كامل .. أحسست بأننى .. غرقت فى دوامة .. وأننى لا أستطيع الخلاص منها .. وكلما فكرت فى الهروب ازددت قربا منها .. والتصاقا بها ..
كان فيها شىء نارى يجذبنى إليها .. بقوة المغناطيس وشده .. ولم أكن أدرى أهى رومانية خالصة .. أم من غجر رومانيا .. فطباعها طباع الغجر .. والشىء الذى لمسته .. أننى أصبحت أسيرها .. وكنت أتحرك وفق كل رغباتها ..
ولم يكن هناك شىء مادى يشغلها من مطالب النساء فأعجز عنه .. فلم تكن فى حاجة إلى عطور .. أو فساتين أو شىء مما تشتهيه النساء .. ويطلبنه من عشاقهن ..
وإنما كانت تريد شابا .. يغمرها بحبه ويحوطها بذراعيه القويتين .. وقد وجدتنى مصادفة ساقتنى الظروف إليها ..
وذات ليلة سألتنى وهى تسرح شعرها .. وتتزين من أجلى ..
ـ هل تحبنى حقا .. قل لى هذا .. حتى وإن كنت تكذب على ..
فاقتربت منها .. وطوقتها وهى جالسة أمام المرآه من الخلف .. ونظرت روسانا إلى وجهى المعكوس فى المرآة أمامها .. وسألتنى :
ـ هل سافرت .. إلى الخارج ..؟
ـ أبدا ..
ـ هل تحب السفر ..؟
ـ بالطبع .. بعد أن تنتهى الحرب ..
ـ سنسافر إلى بوخارست .. سآخذك معى ..
ـ أكون سعيدا ..
ثم علاها السهوم .. وأطالت النظر .. وسألت :
ـ هل أنت متزوج ..؟
ـ أبدا ..
وبلعت ريقى ..
ـ لا تفكر فى الزواج .. لأنك إذا تزوجت سأقتل زوجتك ..
ـ هل تتصورين أن زوجك سيظل إلى الأبد .. فى المعتقل ..؟
ـ الأمر سواء عندى .. خرج .. أم بقى وإنما أنت ستظل لى .. وحدى ..
وكنت أعرف رغبة المرأة فى هذه السن فصمت ..
وسألتنى :
ـ لماذا تبدو عيناك حزينة ..؟
ـ لأنى فقدت أمى .. وأنا طفل ..
ـ وحزنت عليها .. من وقتها ..
ـ لم أكن أعرف الحزن .. ولكن منظر النساء الباكيات حولها فطر قلبى .. ظلت الغمامة .. متأصلة فى النفس .. وأنا لا أدرى ..
ـ لقد وجدت أخيرا ما يعوضك عنها .. فلا تحزن ..
فضحكت .. وطوقتنى بذراعيها واحتضنتنى ..
***
وخرجت نعيمة من المستشفى وعادت إلى البيت .. ولكنها لم تمنعنى من السهر ومن تركها وحدها فى المنزل ..
وكنت أود أن تثور فى وجهى .. وتغلق علىّ الباب وتمنعنى من الخروج .. وتركتها وحدها ولكنها لم تفعل .. كانت منكسرة .. رقيقة النفس أكثر من اللازم .. وكانت تحبنى فى عبودية صامتة .. ولكن هذا الحب الصامت .. جعلنى أفلت منها .. وأذهب إلى امرأة أخرى أقوى منها ..
***
وذات ليلة .. تركت نعيمة .. وفى عينيها الدمع .. وخرجت مسرعا من البيت كنت فى طريقى إلى روسانا .. وأنا أسير مغمض العينين .. ولا أحس بما حولى .. ولكن على ناصية شارع قصر النيل .. رأيت فتاة مصرية .. جميلة .. جمالا نادرا .. وكانت رقيقة النفس مثل نعيمة ووقف بجوارها شاب مصرى .. يرتدى الجلباب .. وأخذ يهمس فى أذنها .. فوقفت فى مكانها .. كأنها تفكر .. وبعد لحظات شاهدتها تركب التاكسى مع عسكرى إنجليزى .. فانتفضت .. لقد رأيت مثل هذا المنظر من قبل .. ونسيته .. وأن هذا ما سيحدث لنعيمة .. المسكينة .. لو تركتها الآن فى دوامة الحرب .. إن هذا ما سيحدث لها دون شك ..
ودرت مرتين فى الميدان ثم رجعت إلى البيت ..
ولما عدت لنعيمة .. مسحت عبراتها وطوقتنى .. بشدة .. وسألت :
ـ هل تعرف جارتنا .. شرلوت ..؟
ـ طبعا أعرفها ..
ـ أنها تعطينى دروسا فى الفرنسية .. وقد بدأ الدرس الأول اليوم ..
وسررت جدا واحتضنتها ..
وكنت أعرف أنها تعد نفسها لى .. وأن الطريق طويل بالنسبة لها .. ولكنها ستصل حتما إلى بغيتها ..
وبحثت فى جيوبى عن شىء تذكرته وطوحت به سريعا من النافذة .. وسألتنى نعيمة :
ـ ما هذا ..؟
ـ لا شىء ..
وكان مفتاح روسانا .. ساقطا هناك فى وسط الشارع وأخذ المطر يتساقط عليه .. وقد يغطيه الوحل .. وقد يبقى فى قلب الشارع بعد أن يعلوه الصدأ كرمز يذكرنى بحماقة .. وبأننى امتلكت شيئا لا يخصنى فى ساعة ما من حياتى ..
======================== 
نشرت القصة فى مجلة روز اليوسف بالعدد 74 الصادر فى مايو 1960 وأعيد نشرها فى كتاب " غرفة على السطح " سنة 1960
========================


          


 


ساعة المحطة

     كان عبد الغنى فراشا فى محطة .. متوسطة على شريط الصعيد ومنذ أربعين سنة وهو يعمل فى المحطات .. رأى الخط الحديدى يمتد أمامه ويزدوج .. ورأى أسلاك البرق .. ترفع على الأعمدة الخشبية وتهتز مع زئير الريح .. ورأى القاطرات الضخمة التى تتغذى بالفحم وتثير زوبعة من الدخان .. ثم رأى الديزل السريع الذى يمضى كالسهم من غير دخان ..
     وكان عبد الغنى رغم كبر سنه يقوم بكل الأعمال .. حتى النوباتجية إلى الصباح .. فقد كان بادى الصحة لايشكو من أى علة ..
     وكان للمحطة استراحة صغيرة .. وضعت فيها كنبة عتيقة ممزقة ومتسخة وثلاثة كراسى من القش علاها التراب ..
     وكان لايدخل هذه الاستراحة أحد إلا السيدات اللواتى ينتظرن الاكسبريس فى ليالى الشتاء ..
     ومكتب للتليفون والتلغراف .. تهزه الريح فى الشتاء ويتساقط من سقفه المطر .. ثم مخزن للعفش .. ولكن العفش كان يترك أبدا على الرصيف ..!
     كانت القذارة فى كل مكان .. داخل المحطة .. وخارجها ..
     وكان كل شىء يتحرك .. فى كآبة مملة .. الموظفون يتثاءبون فى الساعات الأولى من الصباح .. والخفراء والعمال والحمالون يعملون كأنهم مسخرون ..
     كان الموظفون يشكون من جمهور الركاب ومن المصلحة ومن الغبار والذباب والحر اللافح فى الصيف .. ومن المطر والبرد والوحل فى الشتاء ومن الكآبة المظلمة التى تحيط بالمكان ..
     وكانت لافتة المحطة منصوبة على عمود خشبى فى الشمال .. وطمس من اسمها حرفان تماما .. فأصبح يتعذر على أى إنسان أن يقرأها ..
     وكانت هناك شجرة واحدة .. كان من الممكن لو ازدهرت أن تكون منبع الظل والجمال .. ولكن تركت للمقادير .. ولريح الخماسين .. ولم يكن هناك شىء مضبوط فى المحطة سوى الساعة .. وتحتها كان يجلس عبد الغنى .. ومنذ انشئت المحطة .. وعلق عبد الغنى بيده الساعة على واجهتها وهى تسـير بدقة .. كانت لاتتأخر ولا تتقدم ثانية واحدة .. كانت تسير بانتظام عجيب ..
    وكان الناس يضبطون عليها ساعاتهم .. كأنها " بج بن " ..
     وكانت هذه الساعة تتحرك وتحتها يتحرك عبد الغنى ينظر إليها .. ويقرع جرس القطار .. وينظر إليها .. ويفتح مكتب الناظر .. وينظر إليها .. ويتسلم الوردية من شعبان ..
     وكان كل شىء حسنا فى نظر عبد الغنى .. كان قانعا بالحياة .. راضيا وكانت أمنيته العزيزة الباقية أن يزور الأسياد فى القاهرة ..
***   
      وذات مساء .. استدعاه الناظر وقال له :
     ـ يا عم عبد الغنى .. مدتك .. قربت ..
      ولم يفهم الرجل فقد كان بكامل صحته .. كأنه ابن العشرين .. وفتح فمه فى استغراب .. ومد رأسه يستوضح .. فقال الناظر :
     ـ وصلنا جواب .. من المصلحة .. علشانك ..
     ـ فيه ايه ..؟
     ـ مدة خدمتك تنتهى فى أكتوبر ..
     وكأنما سمع الرجل الحكم عليه بالاعدام .. فرغم الكآبة وقلة الأجر طوال هذه السنوات .. فإنه كان يعمل ويتحرك .. ويشعر بالأمان .. أما الآن .. فقد القى به بعيدا .. عن معترك الحياة ..
     وأحس الرجل الذى كان يسير فى المحطة كابن العشرين .. أحس لأول مرة فى حياته بالشيخوخة الحقة تدب فى جسمه .. فسحب رجليه سحبا .. وجلس على دكة هناك .. بعيدا .. ينظر إلى المحطة الصغيرة التى عاش فيها .. أربعين سنة من عمره .. والتى أقامها على عاتقه .. أن كل الموظفين الذين جاءوا إليها وعاشوا فيها .. خدمهم باخلاص .. كان لهم نعم الأب .. الصغار والكبار منهم وكل شىء فى المحطة يتصل به ويمتزج .. الاكشاك .. وأسلاك البرق .. والمكاتب والتليفون .. وآلة التلغراف .. وحتى التراب .. فكيف يقطع هذا منه وينفصل عنه فى لحظة .. فى اكتوبر سيخلع بدلة المصلحة .. وماذا يلبس .. وفى أكتوبر سيتسلم المكافأة وماذا يفعل بها بعد أربعين سنة .. قضاها فى هذا القطاع الضيق من الحياة .. ماذا يفعل ..؟
     واستدار بعنقه وهو جالس .. إلى الخلف .. شعر بشىء يحط على كتفيه .. وود لو يراه .. ويلمسه .. وتثاءب .. وأحس بالنعاس وشعر بثقل تام فى جسمه كله ..فاسترخى وراح فى دوامة من الهموم ..
     ولما انتهى من عمله فى المحطة .. انحدر منها إلى بيته .. وفى الطريق وقف أمام دكان حمدان يشترى علبة سجائر .. وكان يود أن يقول له :
     ـ استوفيت المدة .. يا حمدان .. الناظر .. قال لى كده ..
     وعجب أهل بلدته لمنظره وهو يمشى متثاقلا .. حزينا .. حسبوه راجعا من جنازة ولده ..
     وعندما دخل بيته ورأت زوجته الكآبة على وجهه ، سألته :
     ـ مالك .. يا عبد الغنى .. قطعوا منك يوم ..؟
     ـ قطعوا عيشى .. على طول ..
     ـ كيف ..؟
     وخنقتها العبرات ..
     ـ استوفيت المدة ..
     ولم تفهم نبوية شيئا .. ولكن بعد دقيقة فهمت .. وخيم الحزن على البيت وناما من غير عشاء ..
***
     وفى اليوم التالى .. استيقظ عبد الغنى لأول مرة متأخرا .. وشعر بكآبة الحياة وثقلها .. وخرج من بيته إلى المحطة .. وكان يسمع صفير القطارات ودخانها .. وحركة السيمافورات .. وهو يشعر بغشاوة على بصره وسمعه ..
     رأى كل شىء قد التف فى سواد .. ماتت فى نظره كل المباهج والمتع واسود وجه الأرض فى لحظة ..
     وكان كل من فى المحطـة قـد عرف أن عبد الغنى سيحال إلى المعاش .. فتألموا لفراقه ، فقد كان يغمرهم جميعا بأبوته الكريمة ..
     ورآه ذات ليلة أحد الموظفين يشترى شيئا من السوق لموظف التلغراف .. وابتدره عبد الغنى بقوله :
     ـ سمعت يا فكرى أفندى .. أنا استوفيت المدة .. امبارح ندهلى الناظر .. وقال لى كده ..
    وكانت عيناه .. تسبحان فى الدمع ..
     ـ وما كلمتش حد ..؟
     ـ مين ..؟
     ـ الدكتور عرفان مسافر فى قطر تسعة هو والست بتعته .. اجرى كلمه .. يكلملك حسن بيه ..
     ـ يعمل إيه ..؟
     ـ يشوفلك حل .. يمدوا لك المدة .. يعينوك عتال ..!! أنت بصحتك ..
     ـ مسافر فى تسعة ..؟
     ـ أيوه .. الحق ..
***   
     وعندما صعد عبد الغنى جسر المحطة .. كان قطر تسعة يدخل كالزوبعة وكان الوصول إلى المحطة عدوا .. لايمكن أن يتم فى أقل من خمس دقائق .. والقطار .. يقف دقيقة واحدة .. ومع هذا فإن العجوز المسكين جرى بكل سرعته .. وكل قوته ..!!
     وعندما دوى حذاؤه على أرض المحطة كان القطار قد تحرك .. ورمى مارجا من الدخان والنار ..
     وصاح عبد الغنى .. وهو يجرى وراء آخر عربة :
     ـ يا عرفان بيه .. شوفلى حكايتى فى مصر .. وحياة السيدة زينب ياعرفان بيه .. كلم حسن بيه وحياة أولادك حيرفتونى ..
     وأخذ الرجل يزعق .. كالمجنون ويختلط صراخه .. مع الصفير .. وبعد أن غاب القطار فى جوف الليل عاد عبد الغنى يلهث على الرصيف ثم جلس تحت الساعة .. وكان التعب قد نال منه وقلبه يدق بشدة فقد بذل مجهودا عنيفا ..
     وعندما دخل قطار نصف الليل المحطة خرج الناظر من حجرته يستقبله .. ورأى عبد الغنى من بعيد جالسا تحت الساعة وحيا الناظر الكمسارى والسائق .. ثم قال :
     ـ دق الجرس .. يا عبد الغنى ..
     ولكن الجرس لم يدق ، لأن عبد الغنى أصبح لايسمع أى صوت ..
     وأشار الناظر بيده للسائق .. فتحرك القطار من غير صفير ..
***  
     كان كل من يراه يتصوره نائما .. وكان وجهه يتجه إلى السيمافور المفتوح .. على خط القاهرة .. وإلى هذا السيمافور كان ينظر من أربعين سنة وعلى وجهه الرضا والقناعة ..
     وكانت الساعة قد توقفت على العاشرة والدقيقة الخمسين وهى اللحظة التى توقف فيها قلب الرجل .. توقفت تماما .. وهو شىء لم يحدث لها منذ تحركت عقاربها فى هذه المحطة ..
====================================  
نشرت القصة بمجلة الجيل 30/4/1956 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " غرفة على السطح "
====================================







الرماد المشتعل

جلست تحت ظل شجرة من شجر الكافور فى عزبة الدكتور ثروت بك فى المناشى .. أحتمى فى الظل من وهج الشمس الحامية .. وأرقب الآلات الدائرة فى الأرض المنبسطة أمامى .. ومن ورائها التلال الرملية والنهر المتدفق .. وكنت مهندس هذه الآلات السبع التى تملكها شركة الدلتا الزراعية .. وقد أجرها الدكتور ثروت من الشركة لإصلاح عزبته .. وكان معى ستة عشر عاملا من الرجال الأشداء الأذكياء الذين يفهمون دقائق هذه الآلات ويفكونها ويربطونها كأنها من صنع أيديهم ..
 وكانت هذه الماكينات تستصلح فى اليوم الواحد أكثر من فدانين .. وكنا نعمل بالساعة .. وفى كل آلة عدادها .. وهو قرص مستدير دقيق الصنع .. محكم التصويب لا يصيبه التلف قط .. وكانت الشركة تفرض على صاحب الأرض أن يقيم مساكن للعمال وللمعاون وللمهندس .. قبل أن تدور أول آلة فى الأرض ..
وكان الدكتور قد بنى لنفسه فيلا أنيقة فى العزبة وأثثها بأثاث بسيط جميل .. ووضع فيها تليفونا وثلاجة .. وأنارها بالكهرباء .. وجعل فيها كل مرافق الحضارة .. ولكنه مع هذا لم يكن يبيت فيها إلا نادرا لقرب العزبة من القاهرة ..
وكان قد ترك لى الطابق الأول من الفيلا .. ولكننى رفضت هذا .. وطلبت منه أن يعد لى بيتا خشبيا صغيرا كالذى أقامه للمعاون .. لأكون بكامل حريتى .. فوعد بذلك .. وأقمت مؤقتا فى الفيلا حتى يعد البيت ..
ولم يكن يعنينى من الفيلا سوى السرير الصغير الذى أتمدد عليه بعد الغروب .. ونظرى عبر النافذة .. وحولى مباهج الطبيعة .. متجلية فى السماء والأرض .. فكنت أستغرق فى هذا السكون وأحلم أحلام اليقظة وأفكر ..
وسمعت وأنا جالس فى الظل صوتا نسائيا .. يتحدث فى داخل كشك التليفون .. صوتا جديدا لم أسمعه من قبل .. فلم يكن زوجة أحد العمال أو زوجة الخفير عواد .. التى كانت دائما ترد على التليفون فى غياب زوجها .. وإنما كان صوتا ناعما فيه جرس حلو وأرستقراطية .. ويتخلله بعض الكلمات الفرنسية .. كافك بليز .. ولمم شوز .. وسا .. سا ..
وألقيت بسمعى وطال الحديث كعادة النساء فى الكلام .. ثم خرجت صاحبة الصوت من الكشك إلى شرفة الفيلا .. وكان يقف وراءها الخفير .. وحولها بعض الفلاحين .. ونهضت من مكانى ومشيت نحوها بعد أن أدركت ببصيرتى أنها زوجة الدكتور ثروت بك التى طالما حدثنى عنها الفلاحون .. فقد كان فى خدها الأيسر الندب الذى اشتهرت به ..
وقدمنى لها الخفير قائلا :
ـ حضرة الباشمهندس ..
وسلمت فى أرستقراطية .. وقالت وعيناها على بنطلونى الرمادى المتسخ بالزيت وقميصى الأبيض .. الملوث بالشحم ..
ـ لقد حدثنى زوجى عنك .. كثيرا .. وقال لى أنك أول مصرى يشغل هذا المنصب فى الشركة .. وسرنى هذا جدا ..
وشكرتها بلسانى وقلبى .. وتراجعت إلى الوراء .. وظلت هى بعض الوقت فى الشرفة ثم مشت وخلفها الخفير .. والمعاون .. والفلاحون .. إلى ناحية الغيط الشرقى وكان يروى .. وجلست فى مكانى أرقبها من بعيد وهى تمضى على الرمال الناعمة ..
وكانت طويلة القامة .. وتلبس جونلة بنية وقميصا أبيض .. وتركت شعرها محلولا وساقيها بلا جورب .. وكان فى قدميها خف جميل .. اختارته لتسير به على الرمال ..
كان جسمها ممتلئا أملس نقى البشرة .. وتبرز تقاطيعه فى انسجام وفتنة .. وبشرتها بيضاء لم تلوحها الشمس بعد .. وكان كل شىء فيها يبدو جميلا وآسرا .. إذا غفلت عن شىء واحد .. وجهها .. فقد كان بنصفه الأيسر حروق بشعة .. ولا تقع عليه عين المرء لأول مرة إلا ويشعر برجفة .. ثم إذا بالمرء بعد أن يطيل النظر يستريح بعض الشىء لسواد العينين الجميلتين .. وتقاسيم الفم .. واكتناز الشفة السفلى .. وبياض العنق العاجى ..
وجاء الشيخ محمد ناظر عزبة حمدى بك المجاورة لعزبة الدكتور .. ليتحدث فى التليفون .. وبعد أن فرغ من الحديث مع مخزن السماد فى قليوب .. جلس بجوارى .. وسألنى وهو يشير بيده إلى بعيد :
ـ هل رأيت مديحة هانم زوجة الدكتور ..؟
ـ أجل .. ويبدو أنها طيبة رغم مظهرها الأرستقراطى ..
ـ لا .. لا .. أنها نمرة متوحشة .. ولقد تزوجها الدكتور .. مع دمامة وجهها لأنها غنية .. فهى صاحبة الأرض التى تصلحها بماكيناتك .. وصاحبة عزبة كبيرة فى الفيوم .. وفى منوف .. وفى كل مديرية تجد لها عزبة ..
ولم أستمع إلى بقية حديث الشيخ محمد .. فقد شرد ذهنى ورحت فى دوامة من الخواطر .. ولم أحس بالرجل وهو ينهض ويتجه إلى عزبته ..
***
ونامت مديحة هانم فى العزبة .. وتركت لها الفيلا كلها وذهبت إلى المناشى وكنت أسهر هناك فى مقهى على النيل قرب السوق أتحدث مع بعض الأصدقاء فى مختلف الشئون وكانت المعركة قد بدأت بيننا وبين الإنجليز فى القنال .. وكنت أجد فى المقهى الصانع والتاجر والميكانيكى وبائع السجائر وصاحب محطة البنزين وجميعهم من الجهات المجاورة .. ثم محاميا شابا فى القناطر اسمه طه كان يجىء إلينا بعد أن يغلق مكتبه ويفرغ من موكليه .. وكنت أجد فى هذه الصحبة بعد العمل المرهق فى النهار لذة محببة .. وكنا نقرأ على المقهى صحف الصباح والمساء التى ترد بالسيارات إلى المحطة العمومية للأتوبيس .. ونجتمع حول الراديو لنسمع آخر أخبار الفدائيين فى المعركة ثم أعود فى منتصف الليل بسيارة الشركة الجيب .. إلى العزبة ..
ولما كان المعاون متزوجا .. فقد رفضت أن أنام فى بيته .. وطلبت من الخفير أن يعد لى الغرفة الصغيرة التى فوق ماكينة الرى .. وكان ينام فيها الدكتور ثروت قبل أن يبنى الفيلا .. وكانت غرفة نظيفة ولها نافذتان ودورة مياه صغيرة ونقل إليها الخفير سريرى الصغير وكرسيين ومنضدة .. وحقيبة ملابسى ..
ونمت أول ليلة فى هذه الغرفة وأنا أشعر بسعادة حقة .. وفى الصباح رتبتها وعلقت مراية صغيرة فى الحائط الغربى ومشجبا .. وبذلك اكتملت جميع الأدوات اللازمة لى فى الغرفة ..
وقبل الظهر ركبت مديحة هانم عربتها وعادت إلى القاهرة .. ثم جاءت بعد أربعة أيام ومعها زوجها الدكتور .. وقضيا يومين فى العزبة .. ولما علم الدكتور أننى تركت الفيلا .. استاء .. وقال :
ـ إذن سأبنى المسكن الخاص بك سريعا ..
فقلت له :
ـ لا داعى لأن تكلف نفسك وتبنى .. فأنا أشعر فى الغرفة التى فوق الماكينة براحة مطلقة .. ولو رأيتها من قبل .. ما نمت فى الفيلا قط ..
ـ ما دمت تحب الحرية يا ابنى .. فأنت وشأنك .. ولكن سأرسل لك غدا دولابا صغيرا .. ومكتبا .. وهذا ضرورى لك ..
وكان الدكتور مسنا ويدلف إلى القبر .. وترك كل أموره لزوجته الشابة .. وكانت تتدخل فى كل أعمال العزبة .. فهى التى تراجع الحسابات .. وتحاسب الماكينات .. وكنت أجد حرجا كبيرا لوجودها .. وأحبس لسانى عن الكلام حتى لا أسفهها أو أجرح شعورها .. فقد كان فى تصرفاتها كثير من الحمق ..
وكان الرجل مشغولا بعمله كطبيب وترك لها أمر هذه العزبة الجديدة .. وكان طبيبا مشهورا .. وكلما مرت الأيام ازدادت شهرته .. وكثر عمله .. وتوافد المرضى عليه ..
وكان كلما جاء إلى العزبة .. كنت أتعمد أن أتجاهل زوجته وأقدم له كشف ساعات العمل للماكينات .. فيقول لى :
ـ قدمه يا بنى لمديحة .. فأنا جئت هنا لأستريح .. من كل شىء ..
وبعد أن أصلحنا جزءا كبيرا من الأرض .. رأيت أن استريح فى القاهرة يومين .. ويستريح العمال كذلك .. وكنا قد قضينا فى العزبة أكثر من شهرين فى عمل متصل ..
واتفقت مع الشركة على أن يستريح العمال ثلاثة أيام بعد صرف الأجور مباشرة ..
وفى غروب اليوم الرابع من الشهر صرفنا الأجور .. وسافر العمال إلى ذويهم فى رقعة الدلتا .. وبقيت أنا على أن أسافر فى الصباح ..
وتمددت على السرير .. وعيناى إلى النافذة المفتوحة .. وقد بدت النجوم تلمع فى سواد الليل المعتم .. وكان القمر فى المحاق .. والسكون عميقا .. فقد ترك العمال جميعا العزبة .. وبقيت أنا والخفير وزوجته .. والشيخ عبد الرافع .. وكيل العزبة .. وكان لا عمل له اطلاقا فى وجود الست .. وسمعت وأنا نائم .. صوت ماكينة الرى .. فى الدور الأرضى دائرة وتعجبت لدورانها فى مثل هذه الساعة .. والأسطى الذى يديرها ذهب فى أجازة مع عمال الشركة .. ولا يمكن أن تدور من تلقاء نفسها .. ولما كان صوتها ضئيلا فقد تصورت أننى أتخيل .. وأنها ليست دائرة اطلاقا ولكن عندما نهضت .. وفتحت الباب الخارجى .. تأكدت من دورانها .. فقد كان حسها مسموعا بوضوح وصوت المياه وهو يتدفق فى الحوض الكبير كان أكثر وضوحا ..
وفتحت الباب ونزلت مسرعا .. بمنامتى .. فوجدت أن باب الماكينة مغلق من الداخل .. وكانت الغرفة مضاءة .. وسمعت صوتا نسائيا يغنى بالفرنسية فى عذوبة ..
وعرفت صوت مديحة هانم .. وأدركت أنها هى التى أدارت الماكينة وتذكرت أنها كانت دائما تنظر إلى المياه المتدفقة من الماسورة فى بياض ندف القطن .. وتقول :
ـ أنها كالشلال .. ما أعذبها .. وأجملها .. فى الحر ..
ولم أكن أتصور .. أنها ستستحم فى الحوض يوما ما ..
وتركتها وعدت إلى غرفتى .. وأنا أنصت إلى خرير المياه .. وإلى صوتها الحلو وهى تغنى .. مع الماء المتدفق فى سكون الليل ..
ورجعت إلى مكانى على السرير ولكن لم يراودنى النوم .. فاسترخيت .. وفيما أنا مستغرق فى خواطرى سمعت نباح كلب فى الساحة .. واشتد النباح .. فنهضت وفتحت الباب ونزلت مهرولا .. فإذا بى أرى مديحة هانم تجرى مذعورة وخلفها كلب ضخم .. من كلاب العزبة المجاورة .. وجريت نحوها ولكن الكلب كان قد هجم عليها .. ومزق ثوبها وبدت أمامى شبه عارية ..
وطردت الكلب .. وألقيت عليها بطانية .. فتدثرت بها وهى ترمينى بنظرات من نار ..
وجاء الخفير .. ولكنها كانت قد دخلت الفيلا وأغلقت عليها بابها .. وعدت أنا إلى غرفتى صامتا .. أعانى كل ضروب العذاب ..
***
وفى فجر اليوم التالى ركبت الجيب إلى القاهرة .. وكانت المعركة قد اشتدت بيننا وبين الإنجليز فى القنال .. وابتدأ الفدائيون يهجمون فى عنف وقوة .. وقرأت الأخبـار .. وأنا مسرور ..
وعندما رجعنـا إلى العزبة كان حديث العمال فى الصباح عن هذه المعركة .. وكذلك كان حديثنا فى المقهى فى المسـاء .. وكنت أسمع الكلمات الوطنية الحماسية تتدفق على كل لسان .. حتى على لسان الفلاحين .. العاملين فى الحقول .. وكنت أقول لهم وأنا فى أشد حالات الغيظ ..
ـ إذا كنتم جميعا تكتفون .. بالكلام .. فمن الذى يقاتل الإنجليز ..؟
     وكثر جدلنا فى المساء فى القهوة وكنا نتحـدث عن دور كل إنسان فى المعركة ونقرأ صحف المساء فى لهفة .. وننتظر الأخبار من الراديو إلى ساعة متأخرة من الليل .. وقد شغـلت الحوادث الجارية فى القنال كل تفكيرنا .. وكنـا نسـمع من الرائحين والغادين فى السيارات العمومية .. وفى القطارات أن الإنجليز .. يفتشون المدنيين ويذلونهم .. ويرتكبـون أفظع الجرائم وأشنع الآثام .. وكنا نغلى غيظا ونحن نسمع هذه الأخبار .. ونعجب لكل هذه الاستـكانة من جانبنا .. وكنـت قـد خبرت الفلاحـين وعرفت من طول عشرتى لهم .. وتنقلى بهذه الآلات فى معظم جهات القطر .. واختلاطى بكل أجناسهم وألوانهم .. أنهم رماد مشتعل .. وفقط ينقصهم الرجل الذى يحرك هذه النار .. فالنـار لاتزال مشتعلة رغـم ظلم القرون .. والشعـب حى متوثب .. وفقط يحتاج لمن يخلصه من رق الاستعمار وذل العبودية ..
وكنت أتأمل فيما حولى .. فى الدكتور ثروت .. وعاكف بك .. وعبد الرؤوف باشا .. وهم أصحاب الأراضى الواسعة فى هذه المنطقة .. وأصحاب الاقطاعيات فيها وأراهم جميعا قد أخذوا هذه الأراضى .. من المصالح والشركات .. بقروش معدودة .. بالرشوة .. وبالنفوذ .. وما من واحد منهم جمع المساحات الشاسعة من الأراضى وبنى العزب والقصور .. بالطريق الطبيعى للجهاد فى الحياة .. بالكد .. وعرق الجبين .. لا .. كل واحد منهم فعل هذا بالسطوة .. والوساطة .. حتى التليفون .. الذى فى عزبة الدكتور .. ركبه .. بالوساطة .. ما من شىء طبيعى ..
وكنت أرى الفلاحين وهم يقفون أمام هؤلاء أذلاء مستضعفين .. ولا ينطق واحد منهم بكلمة اعتراض على ظلم يحيق به .. ولكن إذا تركوهم وركبوا سياراتهم .. انطلقوا يسبونهم وينفسون عن مرجل غضبهم المكتوم .. وكنت أعجب لهذا كله ..
***
    وازداد عدوان الإنجليز .. وكثـر القتـلى والجـرحى من المصريين فى منطقة القنال .. كنا نجلس فى المساء  .. ونستمع إلى كل هذه الفظائع ونحن نرتعش من الغضب ..
     وكان يسوءنا جميعا .. أننا نجلس فى المقاهى لنتحدث دون أن نفعل شيئا .. نشاهد من بعيد .. كأن المعركة لاتعنينا .. وكأن هؤلاء الفدائيين يدافعون عن بلد آخر غير بلدنا ..
وقررت أنا وبعض أصحابى أن نشترك فى المعركة .. وكان كثير من الشبان فى قليوب .. والمناشى يذهبون الى الزقـازيق والإسماعيليـة .. ليقاتلوا فيقتل بعضهم ويجرح .. ولا يجدون من ينقلهم إلى المستشفيات .. أو إلى ذويهم .. لذلك رأينا أن ننقل القتلى والجرحى منهم فى ظلام الليل ..
     وكان لابد من الحصول على سيارة سريعة مقفولة .. وعلى السلاح لنوزعه على من يتطوع فى المعركـة .. ولما كنت أعرف أن عواد خفير الدكتور .. من عرب الصعيد .. فقد كلفته بجمع السلاح .. وكان أمينا ومخلصا .. فقـال لى أنه فى حاجة إلى مائة جنيه ليرسلها مع مخصـوص لإحضار السلاح .. وأنه وجد سيارة ألمانية وهى أصلح سيارة لنقل الجرحى فى الليل .. وصاحبها يطلب ثلثمائة جنيه .. ولم يكن معنا هذا المبلغ .. وكنا نحب أن يكون عملنا فى نطاق سرى .. فالشركة التى أعمل فيها أجنبية وفيها الكثير من اليهود .. لو علموا بهذا فسيفصلوننى مع العمال جميعا دون إنذار .. وجمعنا فى نطاق ضيق ستين جنيـها .. وحرت .. كيف نحصل على الباقى ..؟ وتعذبت كثيرا لفقرنا ..
***
 وذات ليلة .. سمعت نقرا خفيفا .. على باب غرفتى .. ونهضت وأنا أعجب للطارق فى مثل هذه الساعة من الليل .. وفتحت الباب .. فوجدت مديحة هانم واقفة على العتبة .. وكانت ترتدى ثوبا أسود .. وقد عصبت رأسها بمندبل .. فأدركت أنها جاءت متخفية ..
وقالت وقد رأتنى لا أنبس بعد أن فتحت لها الباب :
ـ تسمح .. أدخل لحظة ..
وقدمت لها كرسيا .. وجلست .. وظللت واقفا .. أنظر إليها فى قلق ..
فقالت :
ـ لماذا لا تجلس ..؟
فجلست وأنا أنظر إلى معالم وجهها صامت .. لعلى أعرف الغرض من زيارتها ..
وأخرجت شيئا من طيات ثوبها .. وقالت :
ـ لقد حدثنى عواد .. أنك فى حاجة إلى هذا المبلغ .. فخذه .. ورده .. متى شئت .. أو متى استطعت ..
فنظرت إليها صامتا .. دون حراك .. فقالت :
ـ لماذا لا تأخذ المبلغ ..؟
فقلت لها :
ـ لأننى لست فى حاجة إليه ..
فقالت :
ولكننى أعرف أنك فى أشد الحاجة إليه ..
وكنت أعرف أن عواد مخلص لى .. إخلاصه لها .. ولا يمكن أن يكون قد حدثها عن بغيتى وغرضى الحقيقى من الحصول على النقود ..
فسألتها وأنا أتجه إلى النافذة :
ـ هل تعرفين غرضى من الحصول على المبلغ ..؟
فأجابت باسمة :
ـ لا .. إن هذا لايعنينى فى شىء .. إنك فى حاجة إليه وكفى ..
ـ قد أشترى به قنابل .. وأنسف الفيلا ..
ـ إنك لا تفعل هذا .. لأنك لست بثورى ..
ـ ومن أدراك ..؟
ـ أعرف هذا من لون عينيك .. ومن صوتك ..
أرجو أن تتركى هذا الموضوع إلى الصباح .. ماذا يحدث لو رآك الفلاحون عندى .. فى مثل هذه الساعة ..
ـ سأطفىء .. نور الغرفة .. حتى لا يشعر بنا أحد ..
وأطفأت المصباح فعلا ..
فقلت لها :
ـ أرجوك .. أن تذهبى الآن .. أرجوك ..
ولكنها لم تذهب .. بل عادت إلى مكانها .. وأشعلت سيجارة .. وقدمت أخرى لى فقلت لها :
ـ إننى لا أدخن ..
ـ هذا أعجب شىء .. رجل لا يدخن .. وامرأة تدخن ..؟
ـ هذا من مستلزمات الحضارة ..
ـ سمعت أنك ذهبت إلى المانيا .. فهل أعجبتك .. فأنا ذاهبة إليها مع الدكتور فى العام القادم ..
ـ أوفدتنى .. الشركة .. فى بعثة .. إلى مصنع هذه الجرارات .. فى المانيا وبقيت هناك سنتين .. ثم عدت ومعى أول دفعة من هذه الآلات ..
ـ لعلك تعرف كل ترس فيها ..
ـ هذا طبيعى ..
ـ وهل أعجبتك المرأة الألمانية ..؟ ووقعت فى الحب ..؟
وقد عجبت لهذا السؤال ولم أرد ..
ـ لماذا لا تجيب على سؤالى .. إنك شاب ..؟
ـ إن وقتى لا يتسع لهذا الكلام يا سيدتى .. إننا نجاهد فى الحياة لنحصل على لقمة العيش أولا .. فى الصباح والمساء .. وأنت ترين عملى هنا ..
وكانت قد تحركت واقتربت منى ..
فظللت بجانب النافذة .. متجاهلا وجودها .. وأخذت أحدق فى الظلام .. وكنت أعرف أن هذه المرأة رماد .. مشتعل أيضا .. وأنها تشتهينى بنظراتها وبكل جارحة فيها ولكننى كنت أتجاهل هذا كله ..
***
وفيما نحن عـائدون ذات ليـلة من منطقة الإسماعيليـة .. وكان معنـا ثلاثة من الجرحى أطلق علينـا الرصـاص فجرحت جرحا بالغا .. وواصـل الذى معى قيادة العربة .. وكتمنا الخبر كله .. بعد أن نقلنا الفدائيين الجـرحى إلى المستشفى .. وعملت لى إسعافات أولية وبقيت فى غرفتى فى العزبة .. أعالج فى تكتم تام .. وظهر نبـل العمال وهم يعملون  بنشاط كأنى معهم بين الآلات .. وكانت مديحة هانم تزورنى فى الليل وتبقى معى دقائق قليلة .. وكنت أرى فى عينيها الدموع كلما سمعتنى أتوجع .. وعلمت من عواد أن أحد الذين يترددون على المقهى ويحضرون اجتماعاتنا السرية قد وشى بنا .. وعرف الإنجليز رقم العربة .. وتأكـد لنا الخبر عنـدما وجدنا العربة مشتعلة فيها النار وهى واقفة فى الطريق الزراعى ..                 
     وعرفنا الخائن وكان شابا متعطلا اسمه " عطية " من الذين لفظتـهم المدارس .. ومن الغريب أنه كان أكثرنا حماسة لقتال الإنجليز .. وتركته لعواد فأرداه قتيلا عند وابور الطحين .. وظلت جثته فى العراء دون أن يتقدم أحد لدفنها ..
***
وبرىء الجرح وشفيت تماما .. ورجعت إلىّ قوتى .. وعدت إلى العمل .. وانتهيت من عملى ذات مساء وفيما أنا أركب عربتى الجيب لأذهب إلى القهوة فى المناشى سمعت عواد يهتف باسمى .. لأنتظر .. وانتظرته ..
فقال لى وهو يلهث من الجرى :
ـ تسمح تنتظر يا هلال أفندى .. وتأخذ الست معاك لغاية المحطة ..
ـ ولماذا لم تطلب عربتها من مصر ..؟
ـ العربة تعطلت فى الطريق .. وعاوزه تلحق قطر ثمانية ..
    ولم أقل شيئا ..
وجاءت مديحة هانم .. وركبت بجانبى فى العربة ..
وأسرعت كعادتى .. وقالت لى ونحن نقترب من بلدة نكله ..
ـ لماذا تسرع .. القطر .. لسه بدرى ..
ـ إن هذه هى عادة الميكانيكى فى السواقه .. فاعذرينى .. إنه كابن الذوات .. عندما يركب سيارة .. كاديلاك أو مرسيدس .. يحب دائما أن يظهر براعته ويلفت نظر المارة إليه ..
ـ أننى أسوق مسرعة .. ولكن فى الأرض السوية .. فأرجوك .. أن تراعى أن معك امرأة .. متعبة ..
ـ آسف .. إننى الآن أسير على سرعة أربعين كيلو مترا .. فهل هذا يرضيك ..
ـ مرسى ..
***
ولم أقل شيئا آخر .. وكانت تحول إلىّ وجهها .. ونظرى مستقر على الطريق .. وقد أخذ الظلام يلف كل شىء فى شملته .. وكانت على يمين الطريق الزراعى الذى نسير فيه ترعة كبيرة .. ومن ورائها الشريط الحديدى لخط المناشى .. وكان الخط خاليا من القطارات .. ولم نر غير أعمدة البرق .. وأسلاك التليفون .. الممتدة بجانب الشريط .. كما كانت المحطات الصغيرة مقفرة .. ولما بلغنا محطة القناطر .. سألت عن القطار فقيل لى أنه سيتأخر ساعتين ..
فقالت :
ـ سأبحث عن تاكسى يوصلنى إلى القاهرة ..
ولم نجد .. ورأيت أخيرا أن أوصلها بسيارتى .. وسرنا فى صمت .. على الطريق المرصوف .. وأنوار الجيب تلحس الظلام .. وقالت فى صوت رقيق :
ـ هذه أول مرة أركب فيها سيارة .. وأتمنى .. أن تمتد فيها الطريق .. إلى ما لا نهاية ..
ـ لماذا ..؟
ـ لا أدرى .. وإنما هو إحساس باطنى .. لا أستطيع تعليلة على وجه الدقة ..
ـ ولكن العربة ليست مريحة .. إلى هذا الحد ..
ـ ليست المسألة مسألة عربة .. وإنما هو إحساس داخلى بالاطمئنان .. إحساس بالأمان المطلق .. إحساس لم أحس به ومعى زوجى والشيخ عبد الرافع وعواد وهو مسلح بأحسن طراز من البنادق .. عندما نسير فى قلب الليل بالعربة راجعين من العزبة .. إحساس بأن بجانبى رجلا ..
وتغاضيت عن هذه الإشارة ولم أقل شيئا وأحسست بوجهها يتحول إلىّ كله .. ويترقب الكلمات التى تخرج من بين شفتى .. ولكننى لم أقل شيئا .. فغضبت .. ولكنها كتمت عواطفها .. وسألتنى هذا السؤال المباشر :
ـ ألم تحب قط ..؟
ـ إن وقتى يا سيدتى لا يتسع لهذا العبث ..
ـ أو تسمى الحب عبثا .. إنه أسمى ما فى الحياة ..
ـ أرجوك .. إن التحدث مع السائق .. وفى الليل يقود إلى المهالك .. سننزلق إلى الترعة ..
ـ لماذا هذه الصرامة ..
ـ هكذا جعلتنى الحياة .. وأنت لا تعرفين شيئا عن لقمة العيش .. وإذلال النفس فى سبيل الحصول عليها .. ولا تعرفين الفقر .. ولا الجوع .. لأنك ولدت وفى فمك ملعقة من ذهب .. فماذا تعرفين عن الحياة ..؟
وزوجك الدكتور مشهور .. وأبوك من كبار الباشوات .. وما من شىء إلا وهو طوع أيديكم .. فماذا تعرفين عن الحياة ..؟
ـ أعرف كل شىء ..
من الكتب أظن .. من بلزاك وفلوبير .. وبريفو .. الذين تقرأينهم وأنت مضطجعة على الكرسى الطويل فى شرفة الفيلا وفى فمك السيجارة .. وبجانبك كأس الويسكى .. وأمامك مائة عبد يفلحون لك الأرض .. ويعزقونها .. وحولك الحراس .. وضابط النقطة .. ومأمور المركز .. ومدير الإقليم كلهم خدم لكم .. ومصلحة الأملاك .. ومصلحة الرى .. وبنك التسليف .. كل هؤلاء طوع بنانك فى كل ما تطلبين .. ماذا تعرفين عن الحياة ..
ـ وهل أنا مسئولة عن هذه الحياة .. وهذا الفساد .. لقد ولدت ووجدتها هكذا ..
ـ ولكنك تعملين أنت وزوجك وأضرابكما من الجشعين على امتداد هذه الحياة .. فى الأسبوع الأول من مجيئى .. كنت تودين أنت وزوجك أن أغش فى العداد .. أسرق الساعات من الشركة .. وقدمت لى الرشوة أنت فعلا .. بالطريقة الملتوية التى أعتدتم عليها .. هل عرفت كيف حصلت على هذه الوظيفة حتى أسرق الشركة ..
لقد تخرجت من المدرسة وبحثت عن عمل وتحملت كل ضروب الشقاء وأنا أنتقل من جهة إلى أخرى ومن مصلحة إلى جهة .. ورأيت وجوها بشعة .. وأناسا أكثر شرا من الأبالسة وألعن من الشياطين ..
ـ هل تعرف أننى أعجبت بك من تلك الساعة .. وأحب ..
ولم أسمع الكلمة .. فقد مر قطار الإسكندرية السريع وهو يصفر ويدوى فى عنف بجوارنا ..
وكانت هى بعد أن نطقت نصف الكلمة .. قد أغمضت عينيها وفتحت فمها لتفسح الطريق لأنفاسها الحارة .. وقد انتابها انفعال شديد ولعلها أدركت أنها تسرعت فصمتت ..
ورأيت عن بعد عربة سوداء تقف بمحاذاة الترعة ورجلا يقف فى مقدمتها .. ولما اقتربت منه كان قد رفع الغطاء الأمامى .. وأحنى رأسه على الموتور ..
ولما حاذيت العربة بسيارتى توقفت وسألت السائق عما بها .. فقال لى أنها توقفت فجأة وهو لا يعرف السبب ولمحت بداخل العربة امرأة ومعها طفلان فتقدمت إلى موتور العربة بعد أن وجهت إليها نور بطاريتى ..
وكانت مديحة هانم تنظر إلىّ فى غضب .. ثم خلعت سترتى .. وبعد دقائق معدودة أصلحت العربة وأدرت الموتور .. إذ لم يكن بها سوى خلل بسيط فى الدورة الكهربائية .. وشكرتنى السيدة .. ومضت بهم السيارة فى الطريق ..
وقالت لى مديحة :
ـ أكان لا بد من هذا التطوع ..؟
ـ طبعا .. وأنت تعرفين .. أنه كان بالعربة سيدة .. فماذا يكون مصيرها فى الليل ..؟
ـ أفعلت ذلك .. لأنها جميلة ..؟
ـ ربما ..
ـ أو كنت تفعل ذلك لو كانت مثلى ..
وتأثرت من هذا الكلام .. وأمسكت بيدها وقلت لها وأنا أنظر إلى عينيها ..
ـ ولماذا تتصورين أنك لست جميلة ..؟
ـ أنا أعرف نفسى ..
وجالت فى عينيها الدموع .. وذاب قلبى .. ووضعت يدى على عاتقها .. وقلت لها فى همس :
ـ إنك جميلة .. وفاتنة .. وروحك أجمل وأصفى من الغدير ..
وقربت وجهها من وجهى وهى تنظر إلىّ فى الظلام .. ولم أحس بشفتيها وهما تضغطان على شفتى ..
وأدرت محرك السيارة .. وقطعنا الجزء الباقى من الطريق فى صمت ..
***
ومات الدكتور ثروت زوج مديحة هانم .. ولبست عليه ثياب الحداد .. وظلت كما كانت تدير شئون العزبة وتشرف على جميع مرافقها .. وأصبحت بعد موت زوجها أنظر إليها كأرملة وأعطف عليها وأتغاضى عن كثير من حماقاتها وزاد إخلاص العمال للعمل حتى قطعنا شوطا كبيرا فى إصلاح الأرض .. وأصبحت مديحة تقيم طويلا فى العزبة ولا تذهب إلى القاهرة إلا لماما ..
وكانت الأحداث السياسية تجرى فى القاهرة مسرعة ولا تصل إلينا الأخبار إلا متقطعة مشوهة ..
***
وذات صباح سمع الناس فى الراديو بوثبة الجيش الكبرى .. وعم الفرح الجميع وأخذ الناس يرقصون فى المزارع والنساء يزغردن ..
وتحرك الرماد .. تحرك الشىء الذى كان يحسبه المتشائمون رمادا خامدا لا نفع فيه ولا خير يرجى منه .. تحرك فإذا به نار تتلظى ..
 ورأيت جموعا غفيرة من الفلاحين .. تزحف نحو العزبة .. كانت معهم عصيهم وهراواتهم .. وكانوا يزحفون فى قوة وصمت .. وأدركت بغيتهم .. أدركت أنهم يعرفون أن هذه الأرض أغتصبت منهم .. وأنهم كانوا يزرعون ويفلحون من عشرات السنين على أمل أن يشتروها من مصلحة الأملاك بالتقسيط .. كما كان يفعل غيرهم من الفلاحين ..
ثم جاء الدكتور وأعوانه من ذوى السلطات .. وطردوهم جميعا منها وأصبحت الأرض لهم وبنوا فيها القصور وأنشأوا العزب والآن حان الوقت ليستردوا هذا كله .. كانوا يزحفون فى صمت .. وبصر بهم عواد .. فجرى نحوى ومعه بندقيته .. فقلت له :
ـ لا عليك منهم .. يا عواد .. لا تخش شيئا .. ولا تطلق رصاصة واحدة ..
ـ أننى أخاف على الست .. أنها تبكى فوق ..
ـ لا تخش شيئا ودعهم لى ..
وخرجت إليهم وحدى .. دون سلاح ..
واقتربت من الجموع الزاحفة .. وكان بينهم عبد المعين وتوفيق والشيخ عبد السميع وحلمى أفندى .. وغيرهم من أصحابى فى المقهى .. وقلت لهم :
ـ ماذا تريدون ..؟
ـ حرق الفيلا ..
ـ إن هذا سخف .. وما الفائدة التى تعود عليكم من عمل كهذا .. لا تشوهوا الحركة بأعمال خرقاء .. إن هذه الثورة قامت .. ولم تطلق فيها رصاصة واحدة وهذا أعظم انتصار لها فلماذا هذا الجنون ..
ـ نريد طرد الست من هنا ..
ـ إنها الآن منكم .. وأنا لا أقبل هذه الخسة .. وتعرفون أن عواد مسلح .. ومع أنه معكم بقلبه ولكنه لا يقبل اهانة امرأة حتى ولو كانت بغيا .. وسيقتل منكم عشرة على الأقل .. قبل أن تضعوا أقدامكم فى الفيلا .. فأرجو أن تنصرفوا بسلام ..
ووقفوا قليلا ثم انصرفوا .. متفرقين ..
وعندما عدت .. إلى الفيلا .. أمسكت مديحة .. بيدى وغمرتها بقبلاتها ..
======================== 
نشرت القصة فى صحيفة الجمهورية بالعدد 230 بتاريخ 27/7/1954 وأعيد نشرها فى كتاب " غرفة على السطح " سنة 1960
======================== 
    





جسر الحياة

صلى على النبى ..
صلى ..
صلى على النبى ..
صلى ..
كان العمال يتغنون بهذا النشيد فى صوت هادىء جميل وكان النغم الحلو المتردد فى الفضاء يبعث فيهم النشاط والقوة ..
كانت أصوات المجاريف ترن فى الخرسانة .. وأرجلهم تجرى على السقالات .. فى البناية الضخمة بشارع المطار ..
وكانت الشمس قد ارتفعت فى أفق ضاحية مصر الجديدة .. وبدت حماسة العمال على أشدها وهم يفرغون حمولتهم وينزلون إلى الأرض مسرعين .. كانوا يدورون كالمردة فى شبكة متصلة من السقالات الخشبية .. حتى ارتفعوا بالعمارة إلى الطابق السابع .. ويريدون أن يفرغوا من رمى السقف الأخير .. قبل أن يقترب ظهر الجمعة ..
وكان المهندس " جعفر " واقفا فى الدور الرابع عندما سمع صوت العمال يفتر ثم ينقطع .. وأطل عليهم .. وزعق :
ـ فيه إيه يا إسماعيل ..؟
ـ رايحين يصلوا الظهر ..
ـ ظهر إيه .. الساعة لسه 11 .. يا رجب ..
وظهر الغضب الشديد على وجهه ..
ـ يا رجب رجعهم كلهم .. وإلا حنخصم اليوم ..
ـ دى ساعة نحس .. يا جعفر بيه لازم يتوقفوا فيها ..
ـ نحس إيه يا بهيم ..
وزادت الكلمات غضبا .. فهبط يجرى على السقالة ليعيدهم بنفسه إلى العمل .. وكان منفعلا ويخرج من فمه السباب وهو ينحدر مسرعا فلم يشعر بنفسه وهو يسقط من السقالة إلى الأرض ..
***
وحمل إلى المستشفى وخرج منه مقطوع الساق .. وتمدد فى بيته على الفراش وكان أهله قد جاءوا من المنصورة .. ولكنهم تركوه مع خادمه لما عرفوا رغبته الأكيدة فى أن يبقى فى القاهرة كما كان ..
وكان الطبيب قد أوصى له على رجل صناعية .. ولكنه لم يلبسها ولم ينزل إلى الشارع منذ وقع الحادث ..
كانت أعصابه مشدودة وكان يثور لأتفه سبب وأقل حركة .. وأصبح من كثرة المواسين له والزائرين لبيته لا يرغب فى أن يرى أحدا .. وكان له صديق يدعى شاكر .. يأنس إلى عشرته ويستريح إلى زيارته .. فكان يزوره ويجىء له بكل ما يحتاجه من الخارج ..
وكان يفتح له نافذة الشرفة .. ليجعله يحس بالحياة والحركة فى الطريق ولكنه لم يستطع أن يقول له :
ـ إن كثيرا من الناس تقطع أيديهم وأرجلهم ولا يرقدون مثلك عاجزين فى الفراش ..
كان لا يريد أن يؤلمه وتركه يدرك الموقف بنفسه .. ولذلك سر شاكر لما طلب منه جعفر ذات غروب أن يستند عليه ليخرج إلى الشرفة ..
وقال جعفر وهو يرسل بصره إلى القبة اللازوردية التى تسبح فيها النجوم :
ـ هل تعتقد أن ساقى كسرت لأننى كنت أسخر من خرافة ..
ـ أية خرافة ..؟
ـ ساعة النحس فى يوم الجمعة ..
ـ هناك أشياء تحدث فى الحياة ولا يمكن تفسيرها والناس يعتقدون هذا .. ومن الصعب أن تهاجم الناس فى معتقداتهم ..
ـ ولكنها خرافة .. ولا يمكن أن تكسر ساقى بسبب خرافة ..
ـ كسرت .. لأنك غاضب وقد أعمى الغضب بصرك .. والحادثة مقدرة .. شىء أزلى ..
ـ أنا لا أحب أن أسمع منك هذا الكلام .. لا أحب أن أسمع هذا من رجل له مثل ثقافتك ..
ـ إن العلم والحضارة وكل عبقريات البشرية وكل طاقاتها وكل إمكانياتها لا تجعلنى أنكر القدر .. لأنه حادث ..
ـ لقد سقطت لأن رجلى إنزلقت .. ولو كانت السقالة مسورة ما كنت أسقط على الإطلاق .. هذا فى منتهى البساطة ..
ودق جرس التليفون فذهب شاكر إليه وسر لأنه خلص نفسه من هذا الحوار .. ورفع السماعة .. ثم عاد يحمل الآلة إلى جعفر ..
ـ كلم ..
ـ من ..؟
ـ نادية ..
ـ نائم ..
ـ قلت لها أنك صاح ..
وتناول جعفر منه السماعة .. وبدلا من أن يقربها من فمه وضعها على التليفون وأغلق السكة ..
ـ هذه قسوة لا موجب لها ..
ـ هذا عين الصواب ..
ـ إنها خطيبتك .. وماذا يمنعك من أن تقول لها كلمة أو كلمتين ..
ـ تقصد كانت خطيبتى ..
ـ ولا تزال ..
ـ لا .. لقد صرفت النظر عن هذا كله الآن .. ولو كانت زوجتى بالفعل لطلقتها ..
ـ لماذا ..؟
ـ لا أحب أن أعيش فى أحلام اليقظة .. لقد كانت تسوى لى الكرافتات ثلاث مرات ونحن فى الطريق .. فهل تصلح هذه لأن تمشى مع رجل مقطوع الساق ..
ـ كنت أفضل أن تترك المسألة للزمن ..
ـ لا .. أنا لا أحب الميوعة ولا أنصاف الحلول .. واللون الأسود لا يمكن أن أحلم فأجعله أبيض ..
وأؤكد لك أنها ترقص من الفرح الآن .. لأنى قطعت هذه العلاقة بسكين حادة ..
ـ إنك تنظر للمسألة من جانب واحد .. وعلى أى حال أنت أعرف منى بها ..
وأخذ الصديقان يتحدثان فى مختلف الشئون .. إلى ساعة متأخرة من الليل .. وسلم شاكر .. وخرج إلى بيته .. وبقى جعفر وحده ساهرا .. يتأمل .. وكان قد أبقى الشرفة مفتوحة .. فظل بصره معلقا بالنجوم يتأملها ويتابع سيرها وأفولها .. وعجب فكأنه يراها فوقه .. لأول مرة .. فقد صرفته الحياة بمشاغلها والعراك فى سبيلها عن التطلع إلى السماء ..
***
وذات صباح أخذ يتأمل الساق الصناعية الموضوعة بجانبه .. وفى المساء لبسها ونزل لأول مرة إلى الطريق .. ولكنه لم يستطع أن يسير طويلا فى الشارع .. صعق من نظرات الناس وتخشب جسمه .. كان الذين لا يعرفونه ينظرون إليه فى فضول متوحش .. والذين يعرفونه .. يشفقون عليه .. ينظرون إليه نظرتهم إلى مسكين .. فثارت نفسه ومال إلى حانة للمرة الثانية فى حياته .. ورجع إلى البيت مخمورا ويحمل فى يده زجاجة .. وخلع الرجل الصناعية وهو ثائر وكان يود أن يحطم كل شىء يصادفه ثم يلقى بنفسه من الشرفة ..
***
وسمع الباب الخارجى يدق .. وكان خادمه قد ذهب ليقضى ليلة عند أهله .. فتحرك جعفر وهو يعتمد على العكاز وفتح الباب .. ودخلت روحية .. تحمل على صدرها طفلا .. وابتدرته بقولها :
ـ أرسلتنى أمى لأطمئن على صحتك .. كانت تريد أن تجىء معى .. لكنها مريضة منذ ثلاثة شهور ..
ـ سلامتها .. أقعدى يا روحية .. كبرت بسرعة .. وبقيت عروسة .. وما هذا ..؟
ـ ابنى ..
ـ تزوجت ..؟
ـ وطلقت ..
وتطلع إليها مدهوشا .. الفتاة الصغيرة .. التى كانت تلعب بأدوات مكتبه .. تزوجت وطلقت .. لقد مرت سنون منذ كان يسكن فى بيت أمها فى حى بركة الفيل .. ولكنه كان على اتصال دائم بهما ومودة .. وكان يذكر صنيع أمها وهو طالب فقير يعجز أحيانا عن دفع الإيجار .. فلا تطالبه قط ولا تؤلمه ..
وكان بيت أم روحية قديما ولا يغل إلا جنيهات معدودة فى السنة ولذلك أدخلت ابنتها المدرسة وعلمتها لتجعلها تشتغل وتعيش مكتفية .. ولا يدرى جعفر أتعمل الآن بعد أن طلقت أم لا .. وكان وجهها فيه جوع ..
ونظر إليها جعفر وإلى جسمها الملفوف وشعرها الأسود وبشرتها البيضاء النقية ورأى فتاة جديدة وشعر بشىء يهزه .. ويحرك نفسه التى تفيض بالمرارة والألم ..
ـ ولماذا طلقت يا روحية ..؟
ـ هكذا النصيب ..
ـ أمك التى أختارته لك ..؟
ـ أبدا .. أنا .. التى اخترته .. الفتاة الغريرة .. ماذا تختار .. طبعا .. صعلوك ..
ـ أنت مازات صغيرة وأمامك المستقبل ..
ماذا تعنى ..؟
ـ أعنى أنك ستتزوجين مرة أخرى وتجدين الرجل الصالح ..
ـ وهذا ..
وأشارت إلى رضيعها ..
وأكملت :
ـ هذه أول وآخر تجربة ..
وكان يقرأ فى عينيها القلق المستكن والتعاسة المرة .. ولكنه تعس وقلق أكثر منها وكانت روحه المعذبة تصرخ فى أعماقه بالألم وكان يسبح مع أحلامه عندما سمعها تقول :
ـ تصبح على خير ..
وتحركت وتناولت رضيعها من الأرض ..
فقال وكأن صوته يخرج من أعماق بئر :
ـ بدرى ..
ـ المشوار طويل ..
وكان يود أن يقول لها :
" أتتركينى وحدى ..؟ "
ولكنه بلع الكلام .. وقال وعيناه تسبحان فى سواد عينيها :
ـ عاوز أشرب شاى من إيدك .. وبعدين روحى ..
وذهبت إلى المطبخ خفيفة رشيقة ..
وبعد قليل .. رجعت تحمل الصينية فوجدته قد أغلق عينيه وتمدد فى الفراش ..
ـ تفضل الشاى ..
فلم يرد ..
ـ مالك ..؟
ـ حموت ..
قالها وكأنه يحتضر فعلا .. فمشت إليه واقتربت منه .. وعندما وضعت يدها على رأسه .. فتح عينيه ونظر إليها يتوسل .. وكرر :
ـ حموت ..
فاقتربت حتى التصقت به وهى ترتجف .. ونظرت إليه وجفلت .. كانت نظرته غريبة لم تألفها منه .. وأدركت بغريزتها معناها .. فأخذت تبتعد وكان هو فى هذه اللحظة قد أحاطها بذراعه .. فجفلت من هذه الحركة المباغتة .. وتراجعت مذعورة .. ولكنه لم يفلتها كان قد طوقها بذراعيه .. وعجبت .. فقد بدت فى ذراعى هذا الكسيح قوة رهيبة .. وشدها إليه بعنف وقسوة .. فصرخت وسمع الرضيع صراخ أمه فصرخ .. وكان الليل يدخل كل شىء فى ظلمته الرهيبة ..
***
وظل جعفر أسبوعا كاملا هادىء النفس لا يتصور أنه فعل شيئا نكرا .. كانت قد تقمصته روح شيطان ولما أدركته السآمة .. من القعود فى البيت خرج إلى الطريق .. وتعجب .. وهو يمشى على مهل فى الشارع إذ أن النظرة الأولى التى وجدها فى عيون الناس لم يرها فى هذه المرة ..
كان كل فى شأنه فلم ير أحدا يلتفت إليه أو ينظر إلى عاهته .. وخيل إليه .. أن شيئا قد تغير فى الحى .. ثم أدرك أن كل شىء على حاله .. وأن أعصابه المريضة فى المرة السابقة هى التى صورت له كل هذا الوهم ..
ووجد أن بائع السجائر والفاكهة والخبز .. وكل الناس الفقراء البسطاء الذين يحادثهم ويتعامل معهم يعاملونه بود صادق ولطف .. دون أى اعتبار لعاهته .. ووجد نفسه ينظر إلى الناس فى ألفة طبيعية ومودة إنسانية على خلاف ما كان من طبعه قبل الحادث ووجد أعمى لا يستطيع عبور طريق السيارات .. فاجتاز به المعبر .. ووجد امرأة تمد يدها بالسؤال وهى نائمة .. فتندت عبراته وهو يعطيها قرشا .. تغيرت نظرته للناس والحياة .. وأدرك معنى الألم .. والعطف الإنسانى والرحمة .. وتفتحت عيناه على الجمال والخير .. وغدا يناضل .. علمه الجلوس فى البيت التأمل والنظر إلى الحياة والناس ..
كان يجرى فى الدوامة ويدور حول نفسه .. فأصبح يسير ببطء .. ويتأمل فى الكون والحياة ويعنى بسعادة الآخرين ..
***
سمع جعفر وهو يصعد السلالم عائدا إلى شقته .. جاره همام الساكن تحته يسعل بشدة .. فتأثر ووقف ينقر على بابه .. وفتح الرجل مستغربا لوجود جعفر إذ كان يبتعد عنه ولا يعامله كإنسان ..
ـ فيه حاجة يا عمى همام ..؟
ـ تفضل يا ابنى .. أشرب القهوة .. حمد الله على سلامتك ..
ودخل جعفر شقة جاره العجوز لأول مرة .. ووجد على مائدة صغيرة زجاجة وبقايا شراب وكأسا .. ثم أعقاب سجائر فى كل مكان .. تحت الكراسى والمائدة .. ووجد الكآبة تخيم على البيت .. وخيوط العنكبوت فى السقف .. والتراب على المقاعد .. والفراش .. ووجد الفراغ والوحشة .. وتألم جعفر .. وقال همام من خلال سعاله :
ـ أعملينا قهوة يا نفيسة ..
وتحركت عجوز معروقة تقوم على خدمته .. من الركن المظلم .. وملأ الرجل كأسا وقدمها بيد مرتعشة إلى جعفر ..
ـ شكرا إننى لا أشرب ..
ـ أبدا ..؟
ـ أبدا ..
واحمر وجه جعفر ..
ـ غريبة من شاب فى هذه الأيام .. فكلهم يشربون السجائر والخمر ..
أعذرنى إن كنت أشرب .. أمامك .. فلم تعد لى إرادة .. ولا قوة .. على الامتناع عنها ..
وغامت عينا الرجل العجوز وبدت نفسه أكثر ظلمة وكآبة من البيت الذى يسكنه .. وقال من خلال الدخان والسعال الذى يمزق صدره :
ـ لجأت إليها لأنام .. ثم لم أصح منها بعد ذلك أبدا .. وبدأت أشربها بعد حادثة بسيطة تقع لكل إنسان .. مات والدى وعدت من المقبرة أشعر بالوحدة ومرارة الحياة .. فملت مع رفيق إلى حانة فى شارع محمد على .. وكان من المقدر أن أعيش وحيدا بعد وفاة والدى .. شهرا أو أن أحزن سنة .. ولكن بسبب هذه حزنت وترملت طول الحياة ..
وأدار الكأس البللورية فى يده .. وكان الضوء الخافت يسقط عليها ويده ترتعش بها ..
ومرت زفة فى الشارع .. فظهر الاستياء على وجه جعفر .. وسأله العجوز :
ـ أيضايقك هذا ..؟
ـ طبعا ..
ـ تعود عليه تجده طبيعيا .. دع الناس ترقص وتغنى إذا كان عندها الرغبة فى هذا ..
ـ ولكنهم يعيشون فى خرافات وتقاليد بالية ..
ـ ولو .. وماذا فى هذا .. إنهم يروحون ويتنفسون عن أنفسهم .. وينفضون عن كاهلهم متاعب الحياة ..
وكان العجوز المخمور يتحدث وهو يتثاءب .. والسيجارة تحرق أصبعه .. واستأذن جعفر .. وصعد إلى شقته .. ولما وقع نظره على زجاجة الخمر التى اشتراها أمس ألقى بها فى صندوق الزبالة ..
***
وفى الصباح .. وجد وهو نازل على السلم شقة العجوز مفتوحة ووجده نائما على الكنبة كما تركه بكامل ملابسه ..
***
ومرت الأيام وشعر جعفر بنفسه تصفو وتتفتح للحياة ورجع إلى نفس المقاول الذى كان يعمل معه .. عاد يعمل مع نفس العمال ورحبوا بعودته وسروا كثيرا وزاد نشاطهم وعملهم ولم يشعروه بأنه نقص شيئا ..
وعجبوا للتغيير الذى حدث له فإنه لا يصرخ الآن كما كان .. ويعامل الجميع بإنسانية ولطف ..
وكان يفكر فى روحية كثيرا .. وذهب إلى بيتها ذات مساء .. فوجدها تلبس السواد .. وعلم أن والدتها ماتت منذ شهر .. ولم يجد الرضيع على كتفها فدار ببصره فى الغرفة .. وسألها وقد أطرق :
ـ أين ابنك ..؟
ـ مات ..
قالتها بصوت خلا من كل عاطفة وكل تأثير .. فرفع بصره إليها فرأى وجهها صامتا لا ينطق .. كأنه وجه تمثال ..
وقالت بمرارة :
ـ ولماذا السؤال ..؟
فهمس :
ـ لأنى .. أحمل له .. هـ .. هدية ..
ـ لك حق فقد نسيت أن تدفع الثمن ..
وابيض وجهها ومشت إلى النافذة وأخذت تنشج وتقول من خلال عبراتها :
ـ الشىء الوحيد .. الذى كنت أعيش لأجله .. ذهب .. ولكنى مستريحة الآن .. لأنى عرفت أن الله بعد أن أخذ منى أعز شىء .. غفر لى ..
ـ جئت أطلب الصفح .. وأضع حدا لوحدتك .. وعذابك ..
ـ كيف ..؟
ـ أتزوجك ..
فضحكت .. ضحكة ساخرة انتفضت لها ..
ـ هذا كان زمان ..
ـ والآن ..؟
ـ أبدا .. أبدا .. أبدا ..
ـ ألأنى كسيح ..؟
ـ لا تقل هذا .. لتستدر شفقتى كما فعلت .. فى تلك الليلة المشئومة .. فأنا أتزوجك وأنت كسيح وأنت أعمى وأنت مجدور وأنت مصدور وأعرج .. وأنت تعرف أننى أحببتك إلى درجة العبادة ..
كنت أحلم بك فى الليل وأصحو على طيفك فى النهار .. ولم أكن أبغى أكثر من أن أراك فى الشهر مرة .. وأسمع صوتك .. ولا شىء آخر .. ولا شىء أكثر .. وتحول هذا كله فجأة إلى كراهية لا يمكن أن يتصورها عقل بشرى ..
ـ تعرفين أننى كنت سكران ..
ـ ولكن أنا لم أكن سكرانه .. كنت بكامل وعيى ..
ـ أنت لا ذنب لك .. لقد أغتصبت ..
وسمع ضحكة ارتجف لها ..
ـ أغتصبت .. ياحر قلبى .. !! إغتصاب وأنا راضية .. لقد رضيت .. لا تغالط وتتصور أنه يوجد اغتصاب .. بين رجل وامرأة ..
ـ بل قاومت بعنف المستميت .. وأظافرك لا تزال آثارها فى لحمى ..
ـ ولكن لما نظرت إلى عينيك .. وقرأت ما فيهما قبلت .. والآن هل تتزوج امرأة قبلت أن تتصل بها قبل الزواج ..؟
ـ طبعا مادمت أحبها ..
ـ أنت تغالط نفسك .. هل تتصور لأنك ذهبت فى بعثة إلى الخارج أنك جئت معك بالمجتمع الأوربى .. إننا فى مصر .. وفى الشرق ولنا تقاليد .. والرجل لا يغفر قط لامرأة زلت .. مهما كان متسامحا وكريما بل يحتقرها فى أعماق نفسه .. فهل تحب أن تقوم العلاقة بينى وبينك على الاحتقار ..
ـ وأنا لا أفكر كما تفكرين ..
ـ وأنا أفهم شعور الرجل .. ولقد علمتنى الحياة الكثير .. سيستمر بيننا الحب سنة أو سنتين ثم يبرز ما حدث فى رأسك وتعذبك الهواجس والشكوك وستحدث نفسك .. وتعيد القول .. " مادامت قد رضيت لى فسترضى لكل طارق .. وتظل تعيش فى الشك الأبدى وأنا لا أرضى لك بهذا العذاب .."
ـ إذا رفضت ستعذبيننى العذاب الحقيقى .. سأعيش معذبا حتى الموت .. لقد حرمتك من متعة الحياة ..
ـ لقد غفرت لك .. والله الذى غفر لى سيغفر لك ..
ـ هل معنى هذا .. أننى لا أراك ..
ـ أبدا .. تفضل فى أى وقت ..
ـ وإذا تزوجت ..؟
ـ لا يعقل أن أذهب ملوثة إلى بيت رجل آخر ..
وخرج معذبا شقيا ..
***
وعصر يوم العيد .. ذهب إلى الإمام الشافعى ورآها وهو ينحدر من القرافة ساعة الغروب .. تمشى وحدها بين المقابر .. ومشى وراءها يعرج .. حتى وقفت على قبر هناك .. ثم جلست مطرقة .. ونهضت وفى عينيها يسبح الدمع ..
ورأته وهى تستقبل الطريق واقفا هناك ينتظرها .. وعلى وجهه الأسى واللوعة ..
ومرت به عربة البساتين ولم يلحظها .. وهى تستدير فى المنحنى فدفعته دفعة خفيفة فتكوم على التراب .. وجرت إليه روحية مذعورة وأمسكته وعبراتها تبلل خديها ..
وقال وهو يعتمد على كتفيها لينهض :
ـ أأدركت الآن أننى لا أستطيع أن أعيش فى الحياة بدونك ..؟
فلم ترد .. وأمسكت بيده ومشت صامتة حتى خرجا من المقابر ..
وأحس وهو ممسك بيدها بالأمان والغفران .. وصعدت به .. وهو يمشى على مهل .. جسر الحياة .. 
  ======================== 
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعددين 2 و 3 بتاريخى 5و6 /6/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " غرفة على السطح " سنة 1960
========================


 

 
المنـارة

     كان الدكتور عبد الفتاح من أبرع الأطباء الشبان .. وكان قد قضى ثلاث سنوات فى الخارج يدرس طب المناطق الحارة .. فلما عاد إلى مصر اشتغل سنتين فى مستشفى الدمرداش بالقاهرة ثم انتقل طبيبا لوحدة مجمعة باحدى قرى الصعيد ..
     وكان متزوجا من شابة جميلة ومتعلمة مثله .. ولكنها رفضت أن تذهب معه إلى الريف .. فسافر وحده وأقام فى البيت الذى أعدته له الحكومة ..
     وكان يعمل باخلاص وعن عقيدة متمكنة ، وقد أفادته رحلته فى الخارج ، فأصبح أكثر تجربة ودراية بأحوال البشر ..
     وكان هو المحرك فى الواقع للمجمع كله .. وعليه يتركز العمل .. لأن باقى الموظفين كانوا يتركونه بعد أن ينتهى عملهم ويسرعون إلى بيوتهم فى البندر .. أما هو فكان يبقى ويغرى الموظفين على البقاء .. لأنه كان يعتقد أن الريف المصرى لايمكن أن يتقدم أبدا .. مادام الموظفون يتركونه إلى المدينة ..
     وكان يعتقد اعتقادا راسخا .. أن هذا المجمع نفسه .. سيخيم عليه
الظلام وينسج عليـه العنكبوت خيوطه إذا ترك أمره للتمورجى والخفير .. وفراش المدرسة ..
     وفى الشهر الأول من قدومه .. قابله الفلاحـون بالصدود والتوجس .. وكانوا يتركونه ويذهبون إلى أطباء البندر ..
     وظل فى حيرة حتى عرف السبب .. فقد كان الطبيب الذى قبله يمتص دماءهم ويفرض عليهم أن يأتوا إلى عيادته ليتقاضى منهم أتعابه أضعافا مضاعفة .. فكره المرضى من الفلاحين المجمع .. وأصبح بناية بيضاء من غير روح تسيره ..
     وظل الدكتور عبد الفتاح .. يقاوم هذا الجفاء بانسانيته وبصيرته حتى أعـاد ثقة الفلاحين إلى بناية الحكومة .. وتدفق عليه الناس كالسيل .. وكان المرضى يأتون إليه من كل القرى المجاورة ..
     وكان إذا سمع بمريض عاجز عن الحركة يذهب إليه بنفسه .. ويظل يتردد عليه حتى يشفى ولا يتقاضى منه أجرا على الاطلاق ..
     وإذا ذهب إلى البندر يكون كل همه أن يحصل على الأدوية النادرة التى تنفع الفلاحين .. وتعالج أمراضهم المزمنـة .. ويدفـع ثمنها من جيبه ..
     وفى خلال فترة قليلة .. تحول الفلاحون إليه بقلوبهم .. وأصبح معبودهم وأدركوا أنه المصباح الحقيقى المنير فى القرية ..
     وكان هو يشعر بسعادة غامرة .. وهو يرى الوجوه المنقبضة تتفتح للحياة وتتطلع إلى المستقبل ..
     وكان الماضى يمزقهم .. خـداع الموظفين لهم .. واستغلالهم جهلهم .. وحيل الصراف عليهم .. وغشهم فى الشونة وسرقتهم فى الميزان .. عند توريد المحصول .. ومشاكل السماد والبذور .. ومياه الرى .. واضطرارهم .. إلى الاستدانة بالفائدة الباهظة ..
     ثم الآفات الزراعية التى تنزل بهم .. كل هذه الأشياء حطمتهم .. وجعلتهم .. يمكرون .. ويسرقون .. ويكذبون .. ويخدعون .. ويقتل بعضهم بعضا ..
     وكانوا يتوجسون شرا .. من كل شىء جديد ..
     ولما قام المجمع .. بعيدا عن القرية .. تطلعوا إليه فى وجوم .. فلما سرت فيه الروح الإنسانية .. وأصبح منارة فى هذا الظلام .. أقبلوا عليه .. ونسوا الماضى كله ..
     وسر الدكتور عبد الفتاح من نجاحه فى الريف .. سر لأنه استطاع أن يلمس قلوب الفلاحين .. وكان يزورهم فى القرية ويقضى الليل فى مجالسهم فى " المندرة " .. يستمع إلى شكاياتهم .. وأحاديثهم عن الزراعة وأحوال السوق ..
     وكان الشىء الذى يحزنه .. أن زوجته بقيت فى القاهرة وتركته يجابه الحياة وحده ..
     وكان يفكر فى أن يجعل حول البيت حديقة ناضرة .. وفى وسط الحديقة تكعيبة عنب ..
     ويجعل من البيت جنة صغيرة تغنيه عن الذهاب إلى أى مكان ..
     وكتب لزوجنه يصف أحلامه وما يعده لها ليحبب اليها الريف ويرجوها أن تحضر ولو فى زيارة قصيرة .. وردت عليه بأنها ستحضر فى يوم الخميس .. لتقضى معه أياما قليلة ..
     وذهب ينتظرها على المحطة وعاد بها إلى بيته .. ورأت بعينيها البيت صغيرا ونظيفا .. ومضاء بالكهرباء .. وحوله الغيطان .. ولكن كيف تعيش وحيدة .. وسط أشجار النخيل .. ومع من تتحدث ومع من تقضى النهار .. وإلى أين تذهب فى الليل .. ولمن ترتدى الفساتين الشيك .. ولمن تتزين ..
     قضت أربعة أيام فى عذاب وكأنها تعيش فى واحة .. وفى اليوم الخامس قررت أن تعود إلى القاهرة ..
     وطلب الدكتور سيارة من البندر .. لتقلهما إلى المحطة ..
     وفى الوقت الذى وصلت فيه السيارة .. جاءه خفير المجمع .. وأخبره أن فلاحا مريضا بالخارج فى حالة اعياء شديد يطلب الكشف ..
     وأسرع إليه الطبيب فوجده بين الحياة والموت .. وكان قلبه فى حالة هبوط شديد فأعطاه حقنة مقوية ..
     ولكن الرجل مات فى أثناء الحقنة .. وتألم الطبيب .. وصرخ أهل الميت .. وسرى خبر فى القرية .. أن الدكتور عبد الفتاح قتل الشيخ عبد الجليل بالحقنة التى أعطاها له ..
     وتجمـع أهـل الميت .. وزحفوا على بيت الطبيب وفى عيونهم الشر .. وخرجت طلقة من أحد الفلاحين .. زادتهم هياجا .. ونسى الفلاحون كل حسنات الطبيب فى ساعة واحدة .. وتحولوا جميعا إلى وحوش ..
     وبقى الطبيب فى الداخل يقابل هياجهم بالهدوء .. والصمت ..
     وكان الخبر قد وصل إلى وكيل العمدة فأسرع إلى المكان .. ونهر الفلاحين وضرب الذى أطلق النار .. وقال لهم فى غضب :
     ـ هل نسيتم كل ما فعله لكم الرجل .. انكم أنذال حقا .. ولا تستحقون الخير من انسان ..
     واستمر يعنفهم ويوضـح لهم حقيقة الأمر .. حتى هدءوا وانصرفوا ..
***  
     وقالت ناهد لزوجها الطبيب .. بعد أن انصرف الفلاحون ..
     ـ كيف تعيش وسط هؤلاء الوحوش ..؟
     ـ هذا لامناص منه .. لأعيد إليهم انسانيتهم .. التى سلبت منهم على مدى السنين ..
     ـ وهل أنت مسئول عن هذا ..؟
     ـ إذا لم أكن مسئولا فمن هو المسئول ..؟
     ـ ولكنك ستلاقى العذاب .. والأمر سيطول ..
     ـ هذا صحيح .. ولكنى سأصـل إلى بغيتى حتما .. وأنا على يقين ..
     ـ ألا تفكر .. فى النقل ..؟
     ـ أبدا .. لن أفكر فى هذا .. سأبقى هنا .. لتظل هذه المنارة .. مضاءة ..
     ـ إذن سأبقى معك .. لايمكن أن أتركك وحدك بعد اليوم ..
     وسر منها وطوقها بذراعيه .. وطبع على فمها قبلة ..
     وصرف العربة التى كانت ستقلهما إلى المحطة ..



====================================  
نشرت فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " غرفة على السطح " فى مايو 1960
====================================























الوجه الصامت

     اشتغلت وأنا فى العشرين من عمرى .. وفى أول عهدى بالحياة صرافا فى مصلحة حكومية ضخمة بمدينة السويس .. وكان عملى مرهقا .. ويمزق الأعصاب .. وكنت قليل التجارب فى معترك الحياة وقليل الخبرة بطباع البشر .. وأحمل قلب إنسان ، وقد استغل بعض الموظفين هذه الصفات إلى أقصى حد .. فكانوا يقترضون من نقود الخزانة .. الجنيه .. والعشرة على أن استردها منهم فى أول الشهر ..
    ومع علمى التام بخطورة هذا العمل .. وما يسببه لى من نكبات ، فإننى كنت أعاوده وأكرره ، كأنه مرض قد تأصل فى نفسى . والواقع اننى كنت لا أستطيع أن أرفض طلب موظف فقير يلجأ إلىَّ ليجد ثمن الدواء لينقذ ابنه من حمى التيفود .. ووالدته من الشلل وزوجته من حمى النفاس ..
     وفى الأيام الأولى من الشهر كنت أتعرض لعذاب لايوصف .. بسبب الضغط الشديد فى العمل ونسيانى المبالغ التى اقترضوها منى وأنا مشغول بعملية الصرف .. وندر منهـم من كان يتقدم عن طواعية ويرد لى المبلغ ..
     وحدث ظهر يوم وأنا أغلق الخزانة ، وكنا فى السادس والعشرين من الشهر .. أن دخل علىّ حسين أفندى .. وكان موظفا معروفا بنشاطه وخدماته للآخرين .. وهمس فى أذنى يطلب عشرين جنيها .. لمسألة تتعلق بحياة وموت زوجته .. إذ أن الطبيب سيجرى لها عملية خطيرة اليوم .. ورفض اجراءها قبل تسلم مقدم الأتعاب ..
     وقد طلب من بلدته خمسين جنيها بالتلغراف .. وسيصله المبلغ غدا ويرد لى ما يأخذه فى الحال ..
     ولأنقذ روح إنسان من العذاب .. ولأن حسين أفندى سبق أن اقترض بضعـة جنيهات وردها .. فقد أعطيته المبلغ وخرج وهو يهرول ..
***    
     وفى اليوم التالى لم يحضر المكتب .. وتصورت أنه شغل بالعملية التى أجريت لزوجته .. وجاءنى فى اليوم الذى يليه معتذرا بأن أخاه لم يرسل له المبلغ الذى طلبه بالتلغراف وأنه فى غاية الأسف لما حدث ، وعلى أى حال فقد اقتربنا من أول الشهر .. وبمجرد تسلم ماهيته سيرد لى المبلغ ..
     ولما أفهمته خطورة الأمر لأنها نقود حكومة .. وسأتعرض بسببهـا
للفصل والسجن .. قال باسما :
     " هـذه مسألة بينى وبينك .. فمن الذى سيعرفها .. خليها على الله .. وإذا حـدث تفتيش ولا قدر الله .. سآتيك بالمبلغ بعد خمس دقائق .. اطمئن " ..
     وكان لبقا وسريع الحركة .. وقال هذا وانصرف سريعا كعادته .. ولم يستغرق اطمئنانى سوى لحظات .. وبمجرد انصرافه عادت إلى رأسى الهواجس والخواطر العاصفة من جديد ..
     وفى أول الشهر انتظرته حتى الساعة الثالثة بعد الظهر .. وكان يصرف من البنك .. ولكنه لم يأت .. فاستأت جدا ..
     وكان من عادة الباشكاتب أن يجرد الخزانة فى اليوم الثالث أو الرابع من الشهر ، فاطمأننت أنه لن يحضر اليوم .. وأغلقت الخزانة .. وسألت ساعى المكتب عن بيت حسين أفندى فعلمت أنه فى حى الأربعين .. وقصدته مباشرة قبل أن أتناول طعام الغداء ..
***    
     وطرقت بابه حوالى الساعة الرابعة مساء ، وفتح لى الباب طفل .. فسألته :
     ـ بابا موجود ..؟
     ـ لا .. مش موجود ..
     ـ ما تعرفش هو فين .. أنا عاوزه ضرورى ..
     وسمعت صوت سيدة فى الداخل تقول :
     ـ مين بيسأل ..؟
     ـ أنا إبراهيم .. الصراف .. زميله فى المصلحة ..
     وخرجت السيدة سافرة فى الحال .. وكان على صدرها رضيع .. وسألتنى بلهفة :
     ـ حضرتك .. جايبله الماهية ..؟
     ـ حسين أفندى يا هانم .. بيصرف من البنك .. وأنا جاى علشان مسألة بسيطة ..
     وخيبت هذه الكلمات ظنها .. فتغير لونها .. وضاع بريق الأمل من عينيها ..
     وسهمت قليـلا .. ثم عادت وذكرتنى واقفا على الباب فقالت برقة :
     ـ اتفضل استريح .. يمكن ييجى دلوقت ..
     وحرك الرضيع يده على ثوبها فكشف صدرها .. فعادت تخفيه باضطراب وخدها يرف لونه فى حمرة التفاح ..
     هذه هى السيدة التى حدثنى أنه أجرى لها العملية الخطيرة .. ذلك الكذاب الأشر ..
     ـ وألاقيه فين دلوقت يا هانم ..؟
    ـ والله مش عارفه بالضبط .. لأنه ماجاش من امبارح ..
     ـ نايم بره ..؟
     ـ أيوه ..
     قالت هذا بصوت خافت وزمت شفتيها .. كانت تبلع ريقها بحرقة ونظرت إليها بتأمل .. ورأيت شابة فى السابعة والعشرين من عمرها بيضاء سوداء الشعر .. وعلى وجهها النضير الأسى .. وفى عينيها القلق الذى يحول سواد العين إلى زئبق .. وكان ثوبها سامريا .. يخفى كل تقاطيع جسمها .. وكان الباب نصف موارب ..
     فعادت تقول بصوت خافت :
     ـ اتفضل ..
     ـ متشكر .. أنا أصلى مستعجل ..
     ورأيت ألا أحرجها بكثرة الأسئلة .. ولكننى وجهت هذا السؤال الأخير قبل أن أنصرف :
     ـ هو سافر ..؟
     ـ أبدا هو فى السوبس .. سهران مع أصحابه ..
     واحمر وجهها .. وتعلق بثوبها طفل صغير فى هذه اللحظة غير الطفل الذى فتح لى الباب .. ورفع رأسه إليها .. وأخذ يردد :
     ـ جعان يا ماما ..
     ـ حاضر يا حبيبى ..
     وكانت تسكته برقة .. ثم خفت صوتها .. وتحركت الدموع فى مآقيها .. وكأنما لسعت بالسياط فأسرعت وهبطت درجات السلم ..
***   
     وكنت أقيم فى لوكاندة أبولو .. بشارع السكة الجديدة .. وكان مخالى صاحبها عجوزا يونانيا .. طيب القلب .. وكانت أسرته تقيم معه فى نفس الفنـدق .. وتقـوم بأعمال الطهى واعداد الطعام وكى المفارش .. والملايات .. وكان الفندق مع نظافته قليل النزلاء . ولذلك كان مخالى يشتغل فى عملية أخرى مربحة .. كان يستورد صنفا ممتازا من الشاى .. ويوزعه على نطاق محدود ..
     وكان بطبعه ثرثارا كأبناء جنسه .. وكان يحدثنى دائما عن أمجاد الأغريق القدماء وكنت أضيق بثرثرته وزهوه .. ولكننى أعجب به لأنه لم ينس موطنه الأصلى مع أنه تركه من سنين طويلة وظل يتفاخر به مع انقطاع كل صلاته ..
     وكانت تقيم معى فى نفس الجناح بالفندق راقصة متوسطة العمر تدعى درية .. وكانت تشتغل فى ملهى " النجوم " على طريق الزيتية .. وكانت ناضجة الأنوثة وحلوة .. وتحرص على ألا يزورها أحد فى الفندق على الاطلاق .. وكانت تقضى معظم النهار .. فى غرفتها .. وفى العصر تخرج إلى الشرفة .. أو تجلس فى البهو الداخلى تتحدث مع أسرة مخالى ..
     وكانت تنظر إلىَّ دائما نظرة مودة .. وأرى فى عينيها الرغبة فى أن تكون على صلة بى .. ولكننى كنت أقطع هذه الرغبة بحد السكين .. لأننى كنت فى الواقع أقدر مدى ما تسببه لى العلاقة بامرأة من هذا الطراز من اضطراب .. وكنت أحرص على أن أظل فى عزلتى وتقشفى لغرض واحد .. غرض نبيل وسام .. وكان أسمى عندى من كل شىء فى الوجود .. فقد كنت أعول والدتى وأخوتى الصغار فى القاهرة وأرسل لهم كل شهر أربعة جنيهات من مرتبى وأبقى الستة جنيهات لطعامى وشرابى وسكنى .. فهل تكفى الجنيهات الستة لأن أتعلق براقصة ..
     ولكننى أحسست عندما شاهدتها هذا المساء فى شرفة الفندق بعد عودتى من منزل حسين أفندى .. برغبة شديدة فى محادثتها وأن أقص عليها ما جرى لى وأن أسمع صوتها ..
     وكنت لا أستطيع تعليل ذلك ولا أعرف له سببا ..
     وكان القلق يعذبنى .. ويسوءنى أن يكتشف العجز وأنا فى أول عهدى بالوظيفة والباشكاتب ورئيس المصلحة ينظران إلىَّ كشاب نادر المثال فى عمله وأمانته ..
     ولم أمكث طويلا فى حجرتى بالفندق .. وجدت الغضب يدفعنى
لأن أرتدى بدلتى مرة أخـرى .. وأخرج لأبحث عن الرجل الذى خدعنى .. أبحث عنه فى المقاهى التى فى المدينة وكنت فى كل خطوة ازداد سخطا عليه وأود لو أخنقه ..
     وكانت صورة بيته وزوجته وأولاده .. والحالة التعيسة التى وجدتهم عليها تطوف فى رأسى .. فتزيدنى سخطا عليه ..
***  
     وحتى الساعة التاسعة ليلا لم أكن قد عثرت عليه فى أى مكان فى المدينة تصورت أنه يقصده ..
     وأخيرا اتجهت إلى بيته مرة أخرى .. إذ لم يكن عندى من الصبر ما يجعلنى انتظر إلى الصباح ..
     وكان الشـارع كئيبا وخافت الضوء وبيته أشد كآبة مما رأيته بالنهار ..
     وسمعت وأنا أصعد السلالم إلى شقته .. صوت شجار بالداخل .. ثم تبينت صوته بوضوح .. فشعرت بالاطمئنان ، فقد كنت كمن فقد شيئا فى قاع المحيط .. ثم عثر عليه بعد عذاب وجهد ..
     ولما قرعت الباب انقطع صوت الشجار ..
     وخرجت لى زوجته بنفس ثوبها الذى رأيته عليها من قبل وطالعنى
وجهها الصامت .. وكانت قد مسحت عبراتها ، ولكن ظلت العينـان
نديتين .. وانسانهما مسترخيا ومستسلما لحكم القدر ..
     ولاح شبح ابتسامة وقالت بصوت ناعم دون أن أسألها :
     ـ أيوه موجود .. دقيقة واحدة ..
     وخرج لى حسين أفندى بعد لحظات ، ولما وقع بصره علىَّ امتقع لونه .. وظهر أثر الاضطراب على وجهـه .. ثم غالب نفسه ليبدو طبيعيا .. ودعانى للدخول .. وجلسنا فى حجرة صغيرة وكان بها كراسى من الجوت الممزق والغرفة كلها توحى بالكآبة .. وأخذ يحيينى بعد كل دقيقتين ..
     وطالبته بالعشرين جنيها .. فقال لى أنه سيحملها إلىّ فى الصباح ..
     فقلت له " اننى شبعت من الوعود الكاذبة .. ولن أخرج من بيته إلا والمبلغ فى جيبى .. وليس هناك من سبب يجعلنى أضحى وأعرض نفسى للسجن بسببه "..
     فصمت طويلا .. ثم وجدته ينفجر باكيا مرة واحدة ، وقال لى أنه أضاع المبلغ مع ماهيته فى القمار ..
     ولما سمعـت لفظة القمار انتفضت .. فلم أكن أتصور أنه يقامر أبدا .. ولم يحدثنى أحد من زملائه عن ذلك .. وكنت أفضل أن يقول لى أن المبلغ ضاع منه ، أو أنه صرفه على أى وجه من الوجـوه .. أما أن
يقامر بفلوس الحكومة فهو شىء لا أغفره له ..
     وقلت له بصوت جهورى وأنا فى شدة الغيظ :
     ـ أريد المبلغ فى الحال ..
     ـ ومن أين أجىء به ..؟
     ـ ليس هذا شغلى .. تصرف ..
     وتطور الكلام إلى عراك .. وأمسكت بتلابيبه وأنا فى بيته .. وكنت أقوى منه عشر مرات ..
     وفى هذه اللحظة رأيت زوجته فى الصالة بوجهها الصامت المعبر عن كل ضروب الأسى .. ودخل علينا ابنه الصغير .. ولا شك أن أمه هى التى دفعته إلينا فى هذه اللحظة ، فخجلت وتركت عنق والده المقامر ..
     ورأى حسين أفندى أن يخفف حدة الأمر ، فكتب لى شيكا على البنك الأهلى ، ولما ذهبت إلى البنك لم أجد له رصيدا ..
     وكان فى يدى مستندا يزج به فى السجن .. وكلما فكرت فى أن أتقدم بالشيك إلى النيابة ، كانت صورة زوجته وأولاده الصغار تعود وتحتل رأسى .. فأشعر بالشفقة عليه .. وأتراجع ..
***  
     وظللت أكتم الأمر كلية عن الجميع حتى أجد حلا .. ولم أجد من
الموظفين من يستطيع أن يقرضنى هذا المبلغ أو حتى نصفه .. وكان أهلى
فقراء .. يعيشون عيش الكفاف ..
     وكنت أرسـل جزءا من مرتبى لوالدتى واخوتى الصغـار فى القاهرة .. وبهذا المبلغ الصغير .. كانوا يعيشون فى بساطة وفقر .. ولم أكن أحب أن أجىء بهم إلى السويس .. لأننى كنت سأتحمل نفقات السكن .. وكانوا يقيمون هناك فى بيتنا الصغير ..
     وكانت والدتى مدبرة فى بيتها ، ولا تحب أن تتضاعف مصاريفنا فى البلد الغريب عليها .. ونغرق فى الديون ..
     وكنت أدفع للفندق فى السويس جنيهين فقط ايجارا للغرفة مع غسل وكى ملابسى .. وكنت أسعى لأن أنتقل إلى القاهرة لأعيش مع أسرتى .. لأنهم كانوا فى حاجة إلىّ ..
     وكان انقطاع المبلغ الصغير الذى أرسله لهم معناه عذابهم وموتهم جوعا ..
     وكنت أفكر فى هذه المسألة أكثر من أى شىء آخر وأجعل وجودى فى العمل مقرونا بحياتهم ..
     وكنت قد حرمت نفسى من كل متع الحياة من أجلهم .. فلم أكن أسهر فى الملاهى مع أنها كانت رخيصة فى ذلك الحين .. وكان الذهاب إلى السينما لا يكلفنى غير بضعة قروش ، وكنت أحرم نفسى من هـذه
المتعة .. لأن القروش أحق بها والدتى واخوتى ..
     وكانت السينما تعرض أعظم الأفلام لأعظم ممثلين فى العـالم ..
 كانت جريتا جاربو ومارلين ديتريش واميلى جانينجز .. وليون شانى .. وشارلى شابلن يهزون مشاعر الجماهير ..
     ولكننى كنت أكتفى بأن أجلس ساعتين فى يوم الجمعة فى مقهى المنظر الجميل أشم نسيم البحر .. ثم أعود إلى الفندق ..
     وقد جعلنى هذا لا أعرف إلا قليلا من الناس فى المدينة .. وكانت دائرة المعرفة لا تتعدى موظفى المصلحة ..
     وقضيت الليل .. أفكر فى خليل أفندى وفى مدكور .. وبرعى .. كما فكرت فى الراقصة درية المقيمة معى فى نفس الفندق .. ولكننى خجلت من أن أقترض مبلغا من راقصة ..
***    
     وفى اليوم الثالث من الشهر دخل علىَّ الباشكاتب الخزانة قبل أن أشرب قهوة الصباح وطلب جرد الخزانة .. فتصورت حسين أفندى أخبر بعض زملائه بالمبلغ الذى أخذه وجاء الباشكاتب يضبط الجريمة .. 
     وأخرجت العلبة التى أضع فيها أوراق البنكنوت ووضعتها على المكتب وأنا أرتعش من الخوف ، وقلبى يضرب كالمطرقة .. وسمعت الرجل يقول وأنا أفتح العلبة :
     ـ النقود تمام ..؟
     ـ تمام ..
     ـ لا داعى للعد .. هات كشف الجرد .. أنا مطمئن تماما ، ووقع الكشف وهو يقول :
     ـ أصلى مسافر بور سعيد .. وحغيب يومين .. قلت لازم أتمم على الخزنة .. أنت يا ابنى أمين .. ومخلص فى عملك ..
     ولسعتنى هـذه الكلمات وكنت أود أن ألحق به .. وأحدثه بما جرى .. ولكننى تسمرت فى مكانى .. وبعد أن تركنى .. وجدت العرق يسيل على جبينى ..
     ولما جلست إلى المكتب وشربت القهوة شعرت بالراحة تعود إلىَّ وفكرت فى أن الله أراد أن ينقذنى .. وجعل الجرد على هذه الصورة .. وأن المسألة ستمر بسلام .. وفى خلال الأيام التى تسبق الثانى .. سأكون قد استطعت أن أسترد المبلغ .. وشعرت بالاطمئنان ..
     ولكن حدث ما لم أكن أتوقعه أبدا .. فقد قدم أحد المفتشين من القاهرة وجرد النقود .. واكتشف العجز .. وطلب منى أن أسدده فى الحال اشفاقا على مستقبلى .. فأخرجت الثلاثة الجنيهات الباقية فى جيبى من مرتبى بعد سداد ايجار الغرفة .. وعجزت عن الباقى ..
     واتهمت بالاختلاس وأحـلت إلى النيابة .. فأمرت بالقبض علىّ ..
وسرت اشاعة بين الموظفين .. بأن الراقصة التى تقيم معى فى الفندق هى معشوقتى وأننى صرفت عليها المبلغ ..
     ومن الغريب أن الموظفين الذين كنت أقرضهم وأساعدهم هم الذين كانوا يشيعون هذا الكلام ويروجونه بكل الوسائل .. وانطلقت حولى الألسنة ترمينى بالباطل .. بأنى سكير .. وزير نساء .. ومقامر .. انطلقت الألسنة مرة واحدة ..
     ولم يذكرنى أحد من الموظفين بالخير .. وكان السعاة والفراشون هم الذين يشفقون على حالى .. ويزوروننى فى السجن ويحملون إلىّ الطعام على نفقتهم ..
     وبقيت فى السجن أربعة أيام ، وفى اليوم الخامس خرجت .. وعلمت أن خليل ساعى المكتب دفع المبلغ للنيابة وادعى أنه عثر عليه فى حجرة الخزانة ليحاول انقاذى ..
     واكتفت المصلحة بفصلى من العمل وحفظ التحقيق الجنائى ..
***   
     ولم أكن أحب أن أعود لوالدتى لأنى سأقتلها من الحزن ..
     وعدت إلى الفندق بعد غياب خمسة أيام .. وأنا شاعر بالتعاسة وأتصـور أن عيون الناس تمزقنى فى كل خطوة ، وقد كانت المدينة صغيرة ، وعملى يجعلنى معروفا للجميع ، وحـادث القبـض علىّ قد
انتشر فى المدينة ..
     واحتبست فى غرفتى وكنت فى حالة اعياء وجوع ..
     ثم شعرت بالمرض .. واشتدت علىّ العلة .. فلم استطع التحرك من الفراش يومين كاملين ، وفتحت عينى ذات ليلة فوجدت درية بجانب فراشى .. تنظر إلىّ بعطف .. والظاهر أنها سمعت الخبر ..
     وأخذت تمرضنى حتى شفيت .. وأصبحت أستطيع أن أتحرك ..
     وأدركت بعد خروجى من الحبس قيمة الحرية بالنسبة للإنسان ، فهو الذى يشوه حياته بيديه ويجعل حوله القضبان ، ومهما يكن الغرض الذى من أجله أعطيت للرجل هذا المبلغ .. فقد أخطأت .. وأنا أستحق هذا العقاب ..
     ولقد أكسبنى هذا الحادث تجربة هزتنى .. وخرجت منه وأنا أحس بأننى أشد فهما للحياة وأكثر جسارة ..
     وقالت لى درية ذات ليلة ونحن فى الشرفة :
     ـ أنا عازماك الليلة .. على أكلة جمبرى سويسى ..
     ـ بمناسبة ايه ..؟
     ـ شفاك ..
     وأكلنا أكلة شهية ..
     وفى آخر الليل أحسست بحاجتى لأن أنام فى حضنها .. كنت فى
حاجة إلى الحنان .. وإلى انسان يفهمنى ويرد إلىّ روحى .. ووضعت شفتى لأول مرة فى حياتى على فم أنثى ..
***   
     وانقضت أيام .. ولم يكن معى نقود على الاطلاق .. ولم أفكر فى أن أقترض شيئا من الخواجه مخالى ، أو أذهب إلى أحد ممن أعرفهم ..
     وكانت درية تحاول أن تقدم لى أية مساعدة ولكنها تخشى أن تجرح احساسى وأنا فى محنتى فينقلب العطف إلى النقيض .. واكتفيت بأن أتناول وجبة الغداء فقط فى المطعم الذى كنت آكل فيه ، وكان صاحبه على ما يبدو لا يعرف ما حل بى .. أو يعرف ويتجاهل ، فإنه كان أمينا فى عمله ويحرص على الزبائن .. وكنت أفكر فى والدتى وأخوتى هناك فى القـاهرة عندما يحل الشهر الجديد ولا يصلهم المبلغ الذى به يعيشون ..
     وعضنى الجوع فأخذ ذهنى يشتغل وكنت أشاهد من نافذة غرفتى شابا مقطوع الرجلين يزحف على الرصيف معتمدا على يديه فى بطء واصرار .. ويبيع للمارة أوراق اليانصيب .. وما أقل المشترين منه ، ولكنه كان يظل طول اليوم يكافح ويلف ويدور .. فهل يعمل هذا الكسيح وأظل أنا قابعا فى مكانى ..
     واقترب موسم الحج ، ولاحظت أن الفندق مع رخصه ونظافته
قليل النزلاء .. فتحدثت مع صاحبه .. وأخذنا نفكر معا فى سبب هذا الركود .. ثم رأينا أن بعده عن محطة السكة الحديد وعن الأنظار هو السبب الجوهرى .. وأشرت عليه بأن يطبع اعلانات صغيرة عن مكان الفندق وأسعار الغرف فيه .. ويوزعها على القادمين إلى المدينة فى القطارات والسيارات ..
     ونجحت الفكرة .. وتدفق على الفندق النزلاء .. حتى ضاقت بهم الحجرات .. وأصبح مخالى يضع الأسرة فى الطرقات والممرات .. ولم يكن عنده كاتب فى الفندق لأنه لم يكن فى حاجة إليه .. فلما كثر النزلاء .. استعان بى لأقيدهم فى الدفتر وأحصل أجورهم .. وعرض علىّ ستة جنيهات فى الشهر نظير هذا العمل .. فقبلتها .. لأننى كنت أود أن أتعلق بأى شىء يسد رمق أسرتى .. وكان يوم الثلاثاء هو يوم أجازتى من العمل فى الفندق ، وكنت أذهب فى هذا اليوم إلى الجمرك لأنجز بعض أعمال الخواجه مخالى الخاصة باستيراد الشاى ..
     وقد اكتسبت من ترددى على الجمرك خبرة تامة بالتجارة وأعمال التخليص والشحن فى الميناء ، ولاحظت أن التجار يعانون مشقة بالغة فى اخراج البضائع من الجمارك .. وفكرت فى مساعدتهم كلما سمح لى الفراغ لأوسع رزقى .. واستطعت فى مدى شهور قليلة أن أحصل على مبلغ يوازى مرتبى فى الحكومة .. وأن أرسل لوالدتى المبلغ الذى كنت أرسله .. ولكننى لم أستطع أن أسدد دين خليل ساعى المكتب .. ورأيت أن أذهب لبيت حسين أفندى ومعى الشيك .. لعله يخجل ويعطينى المبلغ أو جزءا منه ..
     ولما وقفت على الباب .. سمعت صوت ماكينة حياكة فى الداخل .. وطلعت لى زوجته وفى يدها قطعة من القماش .. وكان وجهها أكثر صمتا من قبل .. ولكنه كان ظاهرا عليه التعب بوضوح ، وأثر الجوع فى العينين الذابلتين .. وفهمت من الكآبة الصامتة التى طالعتنى من البيت ما وصـل إليـه حالها .. وأنها أصبحت حائكة ثياب لتطعم أطفالها .. وأن حسين أفندى لم يعد يرجى منه شىء على الاطلاق .. ومزقت الشيك وأنا نازل على السلم ..
***  
     واتجهت إلى العمل بكل قوتى .. وكان هناك حافز يحركنى .. وازداد نشاطى وسددت دينى .. ورأيت أن أستقل بعملى .. وأن أتاجر فى الشاى وأبدأ بداية صغيرة ..
     وفى خلال عشر سنوات كونت ثروة .. وأصبحت من أشهر تجار الشاى .. فى السويس ..
     وقد علمنى الحادث الأول الحـذر والحيطة من الناس والتسامح ..
كما عرفت قيمة الحرية فى العمل والكفاح والانتصـار على الحيـاة ..
     وماتت والدتى فى خلال ذلك وتزوجـت أختى سعـاد .. كمـا
تزوجت بهبة وسعدت بزواجهما .. ولكننى أحسست بالفراغ ..
     وكانت درية .. مسرورة بنجاحى .. وأصبحت تنتقل من ملهى إلى
ملهى وتعمل يوما وتتعطل عشرة .. وكبرت .. وأحست بأن شمسها قاربت على الأفول .. وأن أصحـاب الملاهى .. لم يعودوا فى حاجة إليها .. فكان ذلك يمزق روحها ..
     وكنت أغافلهـا وأضع لها أوراق البنكنوت تحت المخدة .. وتصحو .. فتجدها .. وتعرف أننى أنا الذى فعلت هذا .. وتقابلنى بعينين نديتين أبدا .. وتود أن تحرك شفتيها لتقول شيئا .. ثم تعود وتصمت .. وفى عينيها أبلغ كلام ..
***   
     وذات ليلة .. وكنت قد عبرت شريط السكة الحديد متجها إلى سكة الزيتية .. وجدت رجلا أعرفه .. جالسا على الرصيف .. وكان يرتدى بدلة قديمة باهتة اللون .. وقميصه متسخا .. وطربوشه بجانبه .. وكان شـعره نابتا على ذقنه وأسنانه الصفراء .. تبدو من شفتين مشققتين .. وعيناه أشد كآبة .. وكان حوله الأطفال يسخرون منه وكان يشتمهم فيبتعدون عنه .. ثم يعودون يتجمعون عليـه من جـديد وهم يضحكون ويرمونه بالنكات اللاذعة ..
     وكان حسين أفندى عاجزا عن الحركة من فرط السكر ..
     وحملته فى عربة إلى بيته ..
     وفتحت لى زوجته الباب .. وقد أنكرتها .. فقـد تغيرت وكبرت
جدا .. وذهب جمالها كله وانطفأ .. ولكن بقيت النظرة الإنسانية الدافقة فى عينيها .. النظرة المحيرة للألباب .. التى منعتنى من أن أسىء إلى زوجها .. كما أساء إلىّ .. النظرة الصامتة المعبرة التى هزتنى وعلمتنى كيف أمضى فى الحياة وأواجه الشر الذى فى قلوب البشر ..
     ونقلناه فى اليوم التالى إلى المستشفى ، وكنت أود لو يموت .. لأفعل شيئا جديا لهذه السيدة المسكينة وأرعى صغارها ..
     ولكنه عاش .. وظلت تجاهد ببسالة ..
     وظللت أتوقع موته فى كل لحظة .. فإن هاتفا قويا كان يحدثنى من
أعماقى بأن أظل بجـانب هـذه السيدة حتى أعصمها من الجوع والدنس ..


====================================  
نشرت القصة بمجلة الجيل 16/11/1959 وأعيد نشرها فى مجموعة قصص لمحمود البدوى بعنوان " غرفة على السطح "





















عند البحيرة

     كانت المدبنة الباسلة تقاوم الغزو بقلب واحد .. فالرجال والنساء وحتى الأطفال .. كانوا يقاتلون ببسالة من شبر إلى شبر .. وكانت القنابل تسقط عليهم من السماء والأرض .. والنيران تندلع حولهم ومع ذلك لم يتخاذل منهم أحد ولم يتراجع ..
     وظلت البيوت صامدة ومشرقة فى وهج الشمس .. ثم أخذت كرات من اللهب تسقط عليها .. وأخذت القذائف تدكها .. وبين الأطلال والرماد وقطع الأثاث المتناثرة كان الأهالى يتجمعون .. من جديد ويقيمون المتاريس .. ويطلقون النيران ..
     واشتدت المعركة وانقلبت إلى جحيم .. فأخذ الناس يخرجون النساء والأطفال .. من المدينة ..
     ولكن " زبيدة " بقيت فى بيتها .. ومن الصباح الباكر وهى تسمع الضرب .. يأتى من ناحية البحر وكان شديدا مروعا .. ولكنها كانت مطمئنة .. وتقول لكل من تراه سنسحق الأنذال ..
     وكان زوجها قد حمل سلاحه وذهب إلى مطار " الجميل " ومنذ الأمس وهو يقاتل هناك .. وفى الصباح علمت أن المعركة انتقلـت إلى
بور فؤاد .. وزوجها فى قلب الجبهة .. يقاتل مع الوحدات المدرعة ..
     وفى آخر الليل .. عاد بعض الرجال .. ولكنه لم يعد .. فانتفض قلبها .. ولكنها لم تسأل عنه .. كانت تعرف أن المعركة مستمرة وأنه سيعود .. حاملا أنباء النصر ..
     وكان الميكروفون يزعق فى الشارع .. والناس يتدافعون كالموج من جبهة إلى جبهة .. ودوى المدافع يصم الآذان ..
*** 
     وكانت هناك طابية على الساحل .. ترسل بين الفينة والفينة .. قذيفة .. قذيفة واحدة .. ولكنها تدك الجبال .. وتجعل البحر يتحول إلى طوفان .. وكانت زبيدة كلما سمعت هذه الطلقة .. تفرح وتطمئن .. كانت تعرف أنه مادامت هذه الطابية تعمل .. فلن يجرؤ اسطول الأعداء على الاقتراب من الشاطىء ..
     ولكن بعد غروب الشمس .. سكتت الطابية .. سكتت المدافع التى كانت تفرح قلبها وتشيع فيه الأمان .. فاعتصرها الألم .. وبعد ساعة .. سمعت بمقتل زوجها ..
***  
     وفى اليوم الثالث من المعركة سمعت زبيدة وهى فى صحن الدار الضرب يقترب من منزلها والمنازل التى بجوارها تنهار .. فتناولت ابنها الصغير على صدرها بسرعة ودفعت غلامها الثانى أمامها وجرت .. وعندما أصبحت فى وسط الشارع .. كان الغبار والسواد يحجبان الأبصار ..
     ولما انقشعت عن بصرها الغشاوة .. لم تجد ابنها الذى كان بمشى بجوارها فجنت .. ودارت ببصرها فى المكان وجرت مقبلة مدبرة .. وكان الرصاص والقذائف واللهب يتساقط حولها كالمطر ..
     وأخذ جدار من بيتها ينهار .. فصرخت ، فى تلك اللحظة .. برز شاب .. بجوارها ، وعرف أنها تركت ابنها فى الداخل .. فاندفع إلى داخل البيت كالقذيفة وغاب لحظات ، وكانت زبيدة فى خلالها واقفة فى مكانها متخشبة .. لاتطرف ..
     وعندما خرج " ماهر " يحمل ابنها حيا على صدره .. كان التراب يلطخ قميصه والدم يسيل من وجهه .. وأدركت أنه تعرض للموت المحقق وهو يبحث عن الغلام .. وأسرع بها لتخرج من المكان ..
     ولما خرجوا من المدينة .. كان الظلام يخيم .. واتخذوا الطريق إلى بحيرة " المنزلة " ..
***
     ولما بلغوا الشاطىء .. كان الليل قد انتصف ، وعلموا أن الإنجليز احتلوا المدينة .. وحاصروها ..
     وكان مع " ماهر " بعض الماء فى " زمزمية " فأعطاه للطفلين .. ونظرت إليه زبيدة صامتة ..
     وقد قطـع الأنذال الماء عن المدينة .. وهى تبحث عن قطرة لطفليها ..
***   
     ووجدوا على شاطىء البحيرة جمعا غفيرا من الناس ينتظرون المراكب ، ولكن لم تكن هناك " فلوكة " واحدة ..
     وجلس الناس صامتين ، وكان الضرب فى المدينة على أشده والطائرات تحلق فوقهم ..
***    
     وظل ماهر يبحث على الشاطىء ويرقب مراكب الصيد .. وكل شراع يخفق ..
     وكان الأهالى متناثرين وكلما شاهدوا قاربا يقترب من البر .. اندفعوا نحوه بسرعة .. وأخذوه وأبحروا ..
     ثم انقطعت القوارب لمدة ساعة .. فخشى ماهر على السيدة وطفليها من طائرات الأعداء ، ومشى على الساحل كما اتفق ، فلمح عن بعد زورقا يقترب فرجع إلى زبيدة ..
     وكان الطفل الأكبر قد نام فحمله .. وحملت هى الأصغر .. وسارا
نحو الزورق ..
     وكانت زبيدة ترتدى ثوبا بسيطا .. الفستان الذى كانت تلبسه فى البيت منذ ساعات .. ولم يكن معها أى شىء آخر .. أذهلها الموقف حتى عن أخذ النقود .. فتركتها كلها فى الدولاب ..
     وسألها وقد رآها لا تحمل حتى حقيبة اليد التى تحملها السيدات ..
     ـ خرجت هكذا .. دون حقيبة ..
     ـ ولا منديل .. أذهلنى الموقف عن كل شىء .. حتى النقود .. وهى أسـهل شىء يحمل .. تركتها فى الدولاب .. كلها .. كل ما نملك .. لقد طار عقلى .. وتصورت أن القنبلة سقطت على الطفلين ..
     ـ لك عذرك .. والنقود فداك ..
     ـ عندما تطورت الأحوال .. وعلمنا أن أسطولهم يقترب .. جمعت كل نقودنا .. وكل ما معى من جواهر .. ووضعتها فى علبة فى الدولاب .. ولكن نسيتها .. أنسانيها الموت ..
     ـ فداك .. وكل هذه الأشياء تعوض .. مادمنا نعيش ونعمل ..
     ـ ولكن أخشى أن تقع فى أيديهم غنيمة .. الأنذال .. ان لم يكن البيت قد سقط كله أو احترق .. سيأخذون كل شىء ..
     ولما أصبحوا فى اتجاه الزورق جلسوا فى انتظاره ، وكان الصغير فى حجرها نائما .. ولا يدرى شيئا مما يدور حوله ، أمـا الطفل الآخر فقد
خلع ماهر سترته .. وأرقده على نصفها ودثره بالنصف الآخر ..
     ورآها وليس معها حتى شال تلقيه على كتفيها .. ونظرت إليه بعد أن خلع سترته .. وكان ممسكا بالبندقية .. ورأت وجهه باسما يتفجر بالحياة والأمل ..
     وقالت هامسة :
     ـ أتعبتك ..
     ـ لاتقولى هذا .. الآن .. اننا فى حرب ..
     ـ ولكننى عرضتك للموت ..
     ـ إن لم أمت .. وأنا أدافع عنك .. وعن الأرض التى نقف عليها ونأكل منها .. فمتى أموت ..
     ـ لست من أهل بور سعيد ..؟
     ـ أنا من القاهرة .. وجئت بور سعيد فى مهمة قصيرة .. يوم الثلاثاء الماضى .. وبقيت وشهدت المعركة ..
     ـ ولكنك مسلح ..؟
     ـ انها بندقيـة .. شهيـد .. رأيته يسقط .. بعد أن أطلق آخر طلقة .. كان كأنه فرقة كاملة .. كان يتلقفهم من السماء والأرض .. كان قوة رهيبة .. ولما فرغ منه الرصاص .. سكت .. مثل هذا يموت دائما .. وهذا أسوأ ما فى المسألة ..
     وتذكرت زوجها .. فدمعت عيناها .. ونكست رأسها ..
     ورآها وحيدة مع طفليها .. ولم يسألها .. عن الرجل .. كان يعرف أن هناك كثيرات مثلها ذهب رجالهن إلى المعركة ..
     وكانت تشعر معه بالأمان ، فمذ وقف بجانبها .. وأنقذ لها الطفل وهى تشعر بالأمان ..
     رأت فيه شيئا جعلها تنسى هول المعركة .. وتنسى أنها فقدت زوجها منذ ساعات .. كان صامتا .. قليل الكلام .. ولكنه أشاع فى نفسها الدفء والسكينة .. ومع أنها لاتزال على الشاطىء .. ولم يقترب القارب .. وحولها المدافع تقصف والنيران تتأجج ، والأعداء يرمون القنابل على البحيرة .. ليغرقوا الزوارق بمن فيها .. ولكنها كانت تشعر بالأمان المطلق ..
     ورأته بعد أن اقترب الزورق يقفز فى الماء ويخوض نحوه .. ومع أنه وجده محملا بالأكياس ولكنه جره .. إلى الشاطىء ، وقال له الملاح :
     ـ اننى محمل .. ولا أستطيع أن آخذ أكثر من ثلاثة ..
     ـ اننا أقل من ذلك ..
     ورسا الزورق ..
     ولكن بعد دقيقة .. جرت امرأتان .. ورجل عجوز ..
     فأركبهم ماهر .. وقبل أن يبحروا ظهرت امرأة أخـرى وكانت
تجرى وعلى رأسها متاعها .. وتصرخ مستنجدة :
     وقال ماهر للملاح :
     ـ هاتها ..
     ولما ركبت .. كاد الزورق يغرق .. وظهرت الخطورة جلية لو أبحروا على هذه الحالة ..
     وقال الملاح :
     ـ لابد أن ينزل واحد ..
     ونظر الناس بعضهم إلى بعض .. ولم يتحرك أحد .. وخيم الصمت والذهول ..
     ثم وقف ماهر .. ووثب إلى الشاطىء ..
     ونظرت إليه زبيدة وهو يقف وحيدا على الشاطىء فى الظلام والهول .. ولم تملك عبراتها ..
     وبعد لحظات من ابحارهم .. حلقت فوق الزورق طائرة وأخذت تضربه .. بالمدافع .. ولكنها لم تصبه .. وعادت مرة ومرة .. وفى المرة الثالثة .. رأت زبيدة ماهر يصوب على الطائرة ويسقطها ..
***  
     ومر اسبوع .. وانتقلت فى خلاله زبيدة من المطرية .. إلى المنصورة لتقيم مع أختها .. وكانت فى كل صباح تنزل إلى الشارع لتسمع من الناس أخبار بور سعيد .. لقد فقدت زوجها فى المعركة .. وشاءت الأقدار أن تفقد رجلا آخر .. كان ذهنها مشغولا به لأنها تركته على الساحل حيا .. يتحرك ويقاتل .. الطائرات التى تحلق فوقه ..
     كان ذهنها مشغولا به .. وكانت تود أن تعرف ما حدث ..
     ثم سمعت ما جعلها تيأس كلية .. وتفقد كل أمل .. فبكت .. بكت على الرجل الغريب .. كما بكت من قبل على زوجها ..
***  
     ومر اسبوع آخر .. وفى صباح يوم من أيام الاثنين .. وكانت أختها قد خرجت بالأطفال إلى المنتزة فى " شجرة الدر " لأول مرة .. تريهم النهر وتجعلهم يلعبون فى الهواء والشمس .. سمعت " زبيدة " طرقا خفيفا على الباب .. ولما فتحت وجدت ماهر .. وكان كما تركته على ساحل البحيرة .. على كتفه البندقية وخزان الرصاص ولكن ذراعه اليمنى كانت مشدودة إلى عنقه .. وعليها الضمادات .. ولا تدرى كيف قاومت الرغبة العنيفة فى الارتماء على صدره .. واكتفت بالنظر إليه صامتة .. عجزت عن الكلام ..
     وسمعته يقول :
     ـ تعبت .. فى البحث عنك .. حتى وجدتك ..
     ـ تفضل ..
     وأصبحت كلها حركة ..
     ـ تفضل .. وأشارت بيدها ..
     ودخل ..
     ـ كيف عرفت البيت .. هذا عجيب ..
     ـ عرفته من سيدة فى المطرية .. بعد أن ذكرت لها عنوانك .. فى بور سعيد .. وأطلعتها على رسالة باسمك وجدتها فى بيتك ..
     ـ رسالة وجدتها فى بيتى ..؟!
     ـ أجل ..
     ورأت ذراعه السليمة تتحرك ويده تخرج الرسالة وشيئا آخر من حمالة القماش المدلاة بجانبه .. وقدم هذا الشىء لها .. فنظرت إليه متعجبة .. انها العلبة التى حدثته عنها والتى تركتها .. فى الدولاب ووضعت فيها كل النقود والأشياء الثمينة ..
     لقد دخل المدينة المحاصرة وقاتل وأتى بها ..
     ونظرت إلى ذراعه الجريحة .. وسألت :
     ـ أصبت ..؟
     ـ أجل أصابنى الأنذال .. وأنا أقاتل على حدود المدينة .. ولكن سأبرأ قريبـا .. بعد اسبوع واحد .. سأنزع الضمادات وأذهب إلى هناك ..
     ـ إلى الاسماعيلية ..؟
     ـ لا إلى بور سعيد .. وسأقاتل .. حتى أطرد الخنازير .. وسنطهر المدينة الباسلة من رجسهم ..
     ونظرت إليه فى اكبار ..
     واستأنف حديثه :
     ـ وسأبنى لك بيتا .. جديدا .. بالخرسانة هذه المرة .. حتى لا يسـقط .. وسنجعل الدولاب إلى داخل الحائط .. حتى لا تسرق النقود ..
     وضحكت ..
     ونهض ومد يده مسلما ..
     ـ ذاهب .. هكذا .. سريعا ..
     ـ أجل .. وسأعود ..
     وهبطت معه السلم وودعته على الباب الخارجى .. ومضى فى الطريق الطويل على حـافة النهر بين الأشجار .. والشمس يسطع نورها .. ويملأ الآفاق .. 
     وسألتها أختها .. وكانت قد عادت بالأطفال .. ورأتها .. من بعيد وهى تودع الرجل ..
     ـ تعرفينه ..؟
     فلم تنبس " زبيدة " ..
     وظل بصرها يتبع الرجل ..
     وعندما حولت وجهها إلى أختها رأت هذه دمعة صافية قد وقفت حائرة .. على الخد ..
     وصدحـت الموسيقى بعد لحظة فى الطريق .. ومر الشبان المسلحون .. وخوذاتهم وحرابهم .. تلمع فى الشمس .. واستقبلهم الناس بالهتاف والتصفيق ..
     ووقفت زبيدة فى الصف تحيى الرجال الذاهبين إلى المعركة .. وتصورت ماهر هناك فى المقدمة يقاتل قتال الأبطال ليطرد الغزاة .. وكانت الصورة رائعة والشمس الطالعة والموسيقى الصادحة تزيدها روعة ..



====================================  
نشرت القصة بمجلة الجيل 10/12/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " غرفة على السطح " سنة 1960
=======================================


غرفة على السطح

أعتدت أن أقضى أياما من الصيف فى الإسكندرية .. عند سيدة أجنبية مسنة .. كانت تقيم فى حى اسبورتنج ..
فلما سافرت إليها .. فى الصيف الماضى علمت أنها انتقلت إلى محطة الرمل .. فذهبت وراءها .. لأن رغبتى فى الاصطياف لم تكن بقدر رغبتى فى مساعدة هذه العجوز على مواجهة الحياة .. فقد كانت فقيرة وتعمل خياطة للسيدات لتجد القوت الضرورى .. وكانت زبوناتها يتناقصن فى كل شهر .. وأصبحت تعتمد إعتمادا كليا على المبلغ الضئيل الذى تأخذه منى كل عام .. نظير الاصطياف فى شقتها .. وكنت أنا فى الواقع المصيف الأول والأخير عندها ..
ووجدتها فى غرفة على السطح بعمارة ضخمة قريبة من حى البنوك فى المدينة ..
وكان المصعد لا يوصلك إليها .. وإنما عليك أن تصعد خمس عشرة درجة على سلم حلزونى كسلالم البواخر يفضى بك إلى السماء مباشرة ..
وعندما فتحت لى السيدة الباب نظرت إلىّ مدهوشة .. لمعرفتى العنوان .. ودارت عيناى فى المكان .. بعد أن ولجت العتبة .. وأجلستنى على كنبتها العتيقة ..
وظلت يدى على مقبض الحقيبة .. فقد رأيت أن أسلم وأذهب لأن المكان عبارة عن غرفة نوم لها صالة صغيرة خارجية .. وضعت فيها ماكينة الحياكة .. والطاولة التى تفصل عليها .. والشماعة التى تعلق عليها البروفات .. وبعض الصور والأوانى الخزفية .. فكيف أعيش معها .. شهرا وشهرين .. كما كنت أفعل من قبل ..
ولكن لما حدثتنى بأنها تخلصت من جزء كبير من العفش لمرضها الشديد وللظروف القاسية التى أحوجتها إلى المال .. رق قلبى لها .. وتركت مقبض الحقيبة ..
وكأنها أدركت ما يدور فى خاطرى .. فقالت على الفور :
ـ سأعد لك غرفتك كما كانت ..
ـ ألا يضايقك هذا ..؟
ـ بالعكس .. إن وجودك سيخفف عنى آلام المرض .. لقد كنت فى الأسبوع الماضى فى المستشفى اليونانى .. ولو جئت ما كنت وجدتنى هنا ..
ولما رأت أنى لا أزال أفحص المكان بعينى .. قالت :
ـ المكان .. متسع .. وسأنام أنا هنا على هذه الكنبة .. وأتمتع بمنظر البحر .. أنظر ..
وأزاحت الستار عن نافذة زجاجية عريضة من الناحية الغربية فرأيت البحر على بعد كيلو متر واحد .. رائعا .. هادرا .. وكان المنظر فاتنا حقا ..
وكنت لا أود أن أنزع منها الفرحة التى غمرتها والتى سببتها زيارتى .. فصمت ومضت نشطة تعد المكان وتصنع لى فنجانا من القهوة .. وقالت فى أثناء عملها :
ـ لم أستطع أن أدفع إيجار الشقة هناك .. وهذه رخيصة .. ولا بأس بها .. ولا ينقصها إلا النور .. وسأدخله .. من عند جارنا .. إسماعيل أفندى .. ألم تشاهده .. وأنت قادم ..؟
ـ أبدا .. لم أر أحدا ..
ـ إنه فى رقم 38 .. وقد كلمته .. ووافق على أخذ التوصيلة من عنده ..
ولم أكن أتصور أنها تعيش من غير نور كهربائى .. ولما رأيت المصباح البترولى فى زاوية من المكان ولم أكن قد شاهدته من قبل حزنت على حالها ..
وقالت :
ـ هكذا تستقبل الحياة العجائز .. كلما رأيت البحر .. فكرت فى أن ألقى بنفسى فيه .. ولكن خشيت أن يتركنى السمك الصغير للحيتان .. وأنا أخشى هذا النوع من السمك جدا ..
وابتسمت .. وراقبتها وهى تهىء المكان .. وتزيح الدولاب الصغير الذى تضع فيه البروفات .. وتنقل مجلات الأزياء .. وعادت تقول :
ـ سأنزل لأكلم الكهربائى .. وأشترى مصباحين .. فأنا أعرف أنك تحب القراءة قبل أن تنام .. وسأصنع لك مفتاحا للباب .. لم أكن أقدر أنك تأتى .. إلى هنا .. إن الشقة لا بأس بها .. والهواء رخى ومنعش .. ومنظر البحر يبهج النفس وفى هذا الكفاية ..
ومضت تثرثر نشطة ..
وكانت نظيفة ولا تكف عن الحركة رغم سنها .. ولما دخلت الغرفة وجدتها قد أعدتها إعدادا حسنا .. وسمعت وأنا أضع رأسى على المخدة كلبها ينبح .. وكنت أتصور أنه مات أوتركته هناك فى اسبورتنج .. ولكنه جاء معها .. ليؤنسها بصوته ..
وكان من عادتى أن أنام إلى العصر .. ولكننى .. رأيت أن أفسح لها المجال أكثر وأكثر لتعد شقتها الصغيرة لاستقبالى .. فاغتسلت ونزلت بعد أن تركت لها بعض النقود .. لتشترى ما أحتاجه لأنى تعودت على أن أفطر وأشرب القهوة فى الصباح قبل أن أخرج من البيت ..
***
وفى الصباح .. سمعت صوت إسماعيل أفندى يحادث المدام .. ويقول لها مرددا :
ـ مبسوطة يا مدام .. النور وصل .. وأى شىء أدفعيه فى آخر الشهر .. المسألة بسيطة .. وتسمحى وإن كان فيها تعب تركبى لى زرار الجاكتة .. هذا ..
وتقدم نحوها بزرار قديم بنى اللون .. مخدوش من جانب وعليه آثار أظافر صاحبه ..
وعجبت لحرصه على إعادته إلى السترة رغم مظهره المقزز ..
ووقف وهى تركب له الزر .. ينظر إلى حجم اللمبات التى ركبتها ..
وبعد أن ثبتت له الزر تناول سترته وخرج وقالت لى المدام :
ـ تأكد أنه سيأخذ منى ما يعده العداد .. ولن يدفع هو شيئا .. أنا أعرف الرجال ..
وبعد أن تناولت الإفطار وخرجت وجدت إسماعيل أفندى جالسا على كرسى فى الناحية الغربية من السطح .. وأخذت أتأمله جيدا وأتوضح ملامحه .. كان فى حوالى الخمسين من عمره .. سمينا وبيضاوى الوجه .. أبيضه .. وغير حليق .. ولاحظت أن قميصه متسخ وبدلته قديمه غير مكوية وأنه مثال الأعزب .. الذى لا يجد من يرعى شئونه ..
والتقيت به بعد ذلك مواجهة فى المصعد .. ولاحظت أنه يترك شعر ذقنه نابتا .. كما رأيته أول مرة .. وأن قميصه المتسخ لايزال على لحمه .. والجزء الذى يدور حول رقبته كأنه ممزوج بالزيت .. وكانت عيناه ضيقتين .. ولكنهما لامعتان .. وتدوران فى محجريهما كما يدور الزئبق .. لمدة ثوان .. ثم تستقران أخيرا عليك بثبات عجيب .. وبدا لى أنه يستوضح فى هذه الحركة الذبذابة من يجابهه أولا ..
وكان فى يدى جريدة مسائية طويت فيها شيئا .. فوجدته ينظر إلى خبر على صفحتها الأولى بفضول غريب .. فتركت الجريدة كلها له ..
ولما خرجنا معا إلى السطح نبحه كلب المدام .. فزجرته .. وعجبت لأنه لم تنشأ بينهما ألفه حتى الآن ..
***
ومرت الأيام رتيبة على منوال واحد وليس فيها ما يثير .. أو يهز المشاعر .. وكان من عادتى أن أتجول فى الصباح على الشاطىء .. وفى المساء كنت أبقى فى المدينة .. لأستمع إلى الموسيقى فى أى مكان أختاره أو أذهب إلى السينما ..
وكانت الفترة التى تعقب الغداء مباشرة .. ثقيلة على نفسى .. لأن حر الإسكندرية فى ذلك الوقت يكون شديدا وتصبح رطوبتها مضاعفة .. فكنت أذهب غالبا إلى البيت لأتخفف من ملابسى وأستريح ساعة أو ساعتين .. فإذا حدث وأنا فى غرفتى أن سمعت صوت سيدة جاءت لعمل عند المدام فإننى كنت أبقى فى مكانى حتى تذهب هذه الزائرة .. خصوصا إذا كانت مصرية .. لأنها فى الغالب لا تتوقع وجود رجل فى البيت مع المدام .. ولأن ظهورى يكون مفاجأة لها ويشعرها بخجل لا يوصف ..
وإذا حدث وكان الحر شديدا وجعلت باب غرفتى مفتوحا ليمر الهواء فإننى كنت أجعل الستارة التى بين غرفتى وبين الصالة مسدلة .. حتى لا تقتحمنى نظرات من تكون منهن جالسة فى الخارج ..
وكنت أسير على هذا المنهاج أيام أن كنت أقيم معها فى اسبورتنج .. فلما جاءت إلى محطة الرمل لم أغير شيئا من طريقتى ..
***
وحدث فى الساعة الرابعة من بعد ظهر يوم من أيام الخميس .. أن سمعتها تحادث سيدة بالفرنسية .. وتخلل الحديث بعض الكلمات المصرية باللهجة الدارجة .. وكان صوت السيدة الزائرة خشنا على غير المألوف من أصوات السيدات .. وكان من الواضح لى جيدا أن هذه الزائرة أجنبية .. ولكننى مع هذا بقيت فى مكانى ولم أتحرك إلى أن دخلت علىّ المدام تحمل فنجان القهوة ..
وقالت لما رأتنى بكامل ملابسى :
ـ لماذا تحبس نفسك هنا .. إذن .. تعال واشرب القهوة وأنت تشاهد البحر ..
وخرجت وراءها .. ووجدت فتاة جالسة على الكنبة .. وكانت ترقبنا ونحن نتحرك بعينيها .. وتلقى بسمعها لما يدور بيننا .. من حديث ..
فلما اقتربت منها قالت المدام بلهجتها المؤدبة :
ـ مسيو محمود ..
ـ مادموازيل كارمن ..
وسلمت وجلست فى مواجهة البحر .. أشرب القهوة .. وكانت كارمن جالسة .. ثم نهضت وعادت فجلست ..
وفى خلال الدقيقتين اللتين شربت فيهما فنجان القهوة .. راحت وجاءت فى الصالة الصغيرة .. أكثر من ثلاثين مرة .. ثم جلست بجوارى وهى تجذب نفسا طويلا من سيجارة ضمت عليها أناملها .. فى استرخاء ولذة ..
ولاحظت أنها طويلة العود سمراء .. وعيناها أشد سوادا من شعرها .. وجسمها لين لدن .. ويتحرك بمثل النعومة التى فى بشرتها ..
وقالت المدام .. وهى تطوى فستانا فى يدها ..
ـ المسيو يا كارمن يكتب فى الجرائد .. وربما كتب عنك ..
وتصورتها ممثلة فى السينما .. ولكن المدام قالت وقد رأتنى أحب أن أستطلع الأمر :
ـ إن المدموازيل راقصة بارعة .. أذهب ليلة وشاهد رقصها ..
ـ فى الكازا بلانكا ..؟
ـ فى الأكسيلسيور ..
قالت هذا كارمن نفسها وهى تحدق فى وجهى بقوة ..
ولم أكن أكتب فى الجرائد بالصورة التى فى ذهن المدام .. ولكننى لم أشأ أن أظهرها بمظهر غير العارفة بعملى أمام الفتاة .. خصوصا وأنها ذكرت لها أننى كابنها وأعرفها منذ مدة طويلة ..
كما أنى لم أكن قد دخلت مرقصا منذ أكثر من خمس سنوات .. ولهذا قفز فى رأسى الكازا بلانكا كمرقص كبير ..
وسألتها :
ـ منذ متى بدأت .. الرقص ..؟
ـ من سنتين فقط ..
ـ وتحبين عملك ..؟
ـ بالطبع .. ولكن أحيانا كثيرة أشعر بالسأم والتعب .. وأحس بأنى أود أن أكسب " لوتارية " لألف حول العالم ..
فابتسمت وسألتها :
ـ إيطالية ..؟
ـ إننى مصرية .. ومولودة فى الإسكندرية .. ولكن والدتى أسبانية ..
ـ الدم العربى فى عينيك ..
ـ مرسى ..
ووضعت السيجارة فى الطفاية .. ونهضت وهى تقول :
ـ ستأتى الليلة لترانى فى المرقص ..؟
أعدك بهذا .. وإن لم يكن اليوم فغدا ..
ـ إن نمرتى تبدأ فى التاسعة والنصف تماما ..
ـ سأذهب من التاسعة ..
ـ مرسى ..
ـ ونظرت إلى المدام :
ـ سأجىء يا مدام .. يوم الثلاثاء العصر لأعمل البروفة ..
وعندما خرجت وتطلعت من الشرفة الزجاجية إلى ناحية البحر رأيت قرص الشمس يتوهج بشدة كأن أحدا صب عليه مقدارا كبيرا من الزيت المغلى .. ثم انطفأ اللهب الأحمر كله فى الماء ..
***
وقبل أن تغيب أقدام كارمن على السلم الحديدى سمعنا الكلب ينبح بشدة فى الخارج فخشيت المدام أن يكون قد طارد الفتاة .. ففتحت الباب وخرجت وراءها .. فوجدنا الكلب يطارد إسماعيل أفندى وكان واقفا على بسطة السلم .. ينظر إلى الفتاة الهابطة ..
وقلت له .. بعد أن طردت المدام كلبها ..
ـ إن هذا الكلب .. يضايقك .. باستمرار .. مع الأسف ..
ـ وما الذى أعمله .. إن المدام طيبة وفقيرة .. كما ترى .. ولا أهل لها .. مسكينة .. فليس أيسر من أن تتحمل نزوات كلبها .. بصبر أيوب ..
وكنا نسير فى الناحية الغربية من السطح الواسع .. ولمحته يرقب خادمة عارية الساقين تضم غسيلا من فوق الحبال .. بعينين نفاذتين ..
واعتمد على حاجز السور .. فوقفت بجانبه .. أحادثه ونظره يرقب الغسيل .. حتى وضعته الخادمة فى السفط ومضت ..
وانطلق يحادثنى وعلمت أنه يسكن منذ أربع سنوات فى هذه العمارة وأنه يستريح إلى الأدوار العليا .. لأنها بعيدة عن ضجيج الشارع وضجيج السكان أنفسهم .. وأنه يعيش من إيراد عزبة له فى كفر الدوار .. وأنه منذ وضع يده على هذه العزبة وهو فى نزاع مستمر مع الفلاحين وقد انقطع عن الذهاب إلى هناك منذ سنة لأنه يخشى من الفلاحين أن يقتلوه .. وتركها لشخص .. يسرقه طبعا ولا يعطيه كل إيراده .. ولكن هذا خير من القتل ..
وابتسم وهو يحدجنى بنظرة ماكرة ..
فقلت له :
ـ يبدو لى أنك لم تعش فى الريف .. ولهذا لا تعرف الفلاحون ..
ـ ومن الذى يستطيع أن يعيش معهم .. أنك لا تسمع إلا صوت النار .. فى الليل .. وترى الذباب .. والغبار فى النهار ..
ـ إنهم طيبون بسطاء .. وعيبك أنك لم تصل إلى قرارة نفوسهم .. ولم تعرفهم على حقيقتهم لأنك بعيد عنهم .. أنت تنظر إليهم من بعيد كشىء مخيف .. وهذا لا يوصلك إلى شىء أبدا ..
ـ قد يكون هذا صحيحا بعض الشىء .. ولكننى مستريح إلى حياتى هكذا ولا أحب أن أغيرها أبدا ..
ورآنى أهم بالنزول .. فقال :
ـ هل معك الأخبار ..؟
ـ أننى أقرأ الجريدة فى ترام الرمل وأنا ذاهب إلى البلاج وأتركها فى الترام .. بعد أن أفرغ منها .. هكذا تعودت ..
ـ أحملها .. معك .. خسارة ..
وأصبحت أحمل له كل ما أشتريه فى الصباح من جرائد ومجلات ..
***
وذهبت إلى المرقص .. وشاهدت كارمن .. وكان رقصها بارعا حقا .. بالصاجات .. والدف كما ترقص الأندلسيات .. ولكن الفتاة .. كانت تتوق إلى أبعد من هذا الشىء البطىء .. كانت تتوق لأن تفتح عينيها فتجد فارس أحلامها .. تحت قدميها .. وبيده كنز الذهب .. ولما جاءت عند المدام لتعمل البروفة .. سرت لما أطريت رقصها .. وقدمت لى صورتها وهى جذلة طروب .. وحدثتنى عن رغباتها وأحلامها الذهبية .. بحماس شديد ولما خرجت .. لم نتبعها .. لأننا لم نسمع نباح الكلب فى هذه المرة .. ولا فى المرات التى جاءت فيها بعد ذلك ..
وكنت ألاحظ أنها تقف أمام المرآة التى فى الصالة تسرح شعرها وتتزين بل تسرف فى زينتها قبل أن تنزل من عند المدام .. وكانت فى كل مرة تزورنا فيها أراها تزداد فرحا حتى أحسست بأنها عثرت على الكنز الذى كانت تحلم به ..
وذات ليلة عدت إلى البيت بعد الساعة التاسعة ليلا لأنام .. فوجدت كارمن جالسة فى الصالة مع المدام ..
وكانت فى أتم زينتها .. وترتدى الفستان الجديد التى حاكته لها المدام .. وكانت فى أحسن حالاتها .. النفسية .. والصحية .. والشباب يطل من عينيها وضحكتها ترن فى الليل الساكن ..
وحدثتنى بأنها استراحت اليوم من عملها فى المرقص .. وأنها كانت فى السينما ..
وجاءت تقضى فترة من الليل مع المدام .. وتعطيها أجر الفستان ..
وجلسنا نتحدث مدة طويلة ثم سلمت علينا كارمن وخرجت ..
وبعد ساعة من ذهابها سمعنا الكلب ينبح بشدة .. وبشكل أفزعنا ..
ففتحت المدام الباب تستطلع الأمر ..
ومشيت وراءها على السطح وكان صوت الكلب لا ينقطع وفى ظل حجرة الغسيل .. رأينا شيئا .. أفزعنا .. وشل أقدامنا ..
رأينا كارمن ممددة .. على البلاط .. دون حراك .. كانت مخنوقة .. وكان فى يدها شىء قبضت عليه بقوة .. وماتت أصابعها وهى تضمه ..
ولما انحنيت عليها وفحصت ذلك الشىء وجدته زرار جاكتة ملتصقا بقطعة قماش صغيرة وكان نفس الزر الذى سقط من جاكتة إسماعيل أفندى وثبتته له المدام منذ أيام ونفس قماش سترته ..
وعندما نظرت إلى غرفته .. وجدتها مغلقة .. ولكن الكلب كان قد ربض أمام بابه .. وفى حالة توثب ..
ففهمت من حركة الكلب أن إسماعيل أفندى بالداخل وربما حاول الهرب .. ولكنه لم يستطع ..
======================== 
نشرت القصة فى مجلة الجيل بالعدد 391 بتاريخ 22/6/1959 وأعيد نشرها فى كتاب " غرفة على السطح " سنة 1960
=======================
  
 
      

















             
المجداف


     ذهبت أهنىء صديقى الشيخ عبد الرحيم مهران بعودته من الحجاز .. وكانت قريته على الضفة الشرقية من النيل .. فركبت المعدية من ساحل الوليدية إلى هناك ..
     وسارت بنا المركب ساعة كاملة فى ريح غير مواتية وموج كالجبال .. وبلغت القرية فى العصر .. وكانت النساء تزغرد .. والدفوف تدق والرجال يلعبون لعبة التحطيب ويرقصون الخيل فى السامر .. وكان الرصاص ينطلق من جميع أنواع البنادق .
      ولم تكن هذه التحية الحارة موجهة إلى الشيخ عبد الرحيم .. وحده .. فقد عاد معه إلى القرية خمسة آخرون من الحجاج فى نفس الفوج .
     ومع أننى جئت أهنىء وأبارك فى اليوم الرابع من وصول الحاج عبد الرحيم .. ولكن المضيفة كانت عامرة بالمهنئين والمتبركين .. وفى خلال الساعات القلائل التى قضيتها فى " المندرة " قص عليهم الحاج عبد الرحيم .. قصة الحج ثلاثين مرة .
      قص عليهم ركوب الباخرة من السويس .. والطواف .. ورمى الجمرات .. والفداء ووصف لهم المدينة وقبر الرسول .. فتندت عيون الفلاحين بالدمع .. وخشعت نفوسهم وكنت تستطيع فى هذه الساعة أن تمزق جلودهم بحد السكين .. وأن تسلبهم كل ما فى جيوبهم وهم لايحسون بك ولايشعرون .
      وكنت كلما هممت بالانصراف استبقانى الحاج .. حتى غابت الشمس .
      وأخيرا نهضت فأخرج الشيخ من طيات ثيابه قطعة صغيرة من قماش الكعبة ومسبحة .. وتجمع الفلاحون يلمسون قطعة القماش ويقبلونها ويشدونها حتى كادت تستحيل مزقا فى أيديهم لولا أن ابن الشيخ .. خلصها منهم ووضعها فى جيبى ثم مشى معى إلى جسر القرية .. وانحدرنا منه إلى المعدية .. ولما بلغنا النهر .. وجدنا المعدية على العدوة الأخرى .. ورأيت قاربا صغيرا يجدف قرب الساحل ..
      وسألت الملاح :
     ـ إلى أين .. ياعم ..؟
     ـ رايح .. الخزان
     ـ تأخذنى معك .. وأعطيك عشرة قروش ..
     ـ من غير فلوس .. يا ابنى ..
      ومال بالقارب إلى الاعشاب الخضراء التى تنمو على جانب النهر .. وسلمت على مرافقى .. وقفزت إلى القارب .
      ولما جلست مثله فى المؤخرة لمحت امرأة هناك فى المقدمة .. وكانت ملفوفة فى ملاءة سوداء .. حتى رأسها .. وكانت ساكنة لاتتحرك ..
      وكان العشى يزحف علينا بقوة .. وهناك شىء كدخان المداخن يخيم على القرية ..
      ولم يبد منها ونحن نبتعد عن الشاطىء غير نخيلها وقد تعرش سعفه .. وتشابك جريدة .. وكانت هناك نار تشتعل .. فى بعض البيوت المكشوفة .. فى طرف القرية ودخان يتلوى فوق البيوت ثم يذهب إلى السماء اللازوردية ..
     ولم نعد نسمع نباح الكلاب ولاصياح الفلاحين على الجسر ولازعيقهم فى الحقول ..
     ولفنا الليل فى مثل البرقع الأسود ..
     وكان الصياد شيخا وقد نبتت على ذقنه شعرات بيضاء ولكن عضلاته كانت لاتزال قوية .. وكانت ذراعاه طويلتين ومليئتين بالحياة .
     وكان ينحنى إلى الأمام ثم يعود ينحنى إلى الخلف .. وأنا أحس فى كل مرة كأن ضلوعه تتقصف .
     وكان التيار شديدا .. والمياه تلطم جانبى القارب .. فمال الرجل إلى الساحل ليتفادى الدوامات والتيار الشديد ..
     وكانت المرأة لما دخلنا فى الظلمة .. قد أسفرت .. وبدا وجهها كالقمر .. وكانت الطرحة تغطى شعرها .. ولكن حسرتها عن جيدها .. وظهرت البشرة التى لوحتها الشمس .
     وكانت صامتة .. وتنظر إلى ناحيتى من طرف عينيها .. من حين إلى حين كأنها تستغرب ركوب الأفندى فى مثل هذا الزورق ..
     وكان الصياد العجوز يجلس بينى وبينها ..
     وبدت أسنانه الصفراء من أثر التمباك .. وهو يترك المجاديف ليلف لنفسـه سيـجارة .. وبعد أن أشعلها .. استراح ..
     وفى الوقت الذى أخذ فيه الصياد يعود إلى المجاديف .. مزق السكون دوى الرصاص بشدة .. ورفع الصياد رأسه يتسمع وأصغى بأذنيه إلى مصدر النار .. ثم أخذ يسحب المجاديف .
     وقدرت أن حـاجـا جـديدا .. هبط على القرية .. وهذه زفته .
     وكانت الظلمة شديدة فلم نتبين شيئا على الشاطىء وعاد السكون .. ولم نعد نحس إلا بصوت المجاديف .. ثم ظهر خص من البوص على الشاطىء .. وشىء أشبه بالمقاتة .. وفى وسط الحقل شبح المقاتة .. فى أكثر من موضع .. وانسلخنا من هذا كله والزورق يمضى كالسهم ..
    وقلت للرجل وأنا أحس بالعرق الذى يتصبب منه :
     ـ أساعك .. ياعم ..؟
     ـ كتر خيرك .. يا ابنى
     وكأنما كنت الهب حماسته فاقترب جدا من الساحل وانطلق يشق التيار ..
     وظهر شبح على الشاطىء .. وقال بصوت خافت ..
     ـ خذنى معك .. يا عم ..
     ـ إلى أين ذاهب ..؟
     ـ ارمينى تحت الريح ..
     وكان ملثما وحسر لثامه .. ولكنا لم نتبين ملامح وجهه لشدة الظلام .. وبدا شىء يلمع فى يده .. ولاحت البندقية .. لما هبط المنحدر المبلول واقترب منا ..
     وفى تلك اللحظة بدا لى أن الصياد العجوز .. قد فكر فى أن يفلت منه ..
     فقد حول وجه الزورق .. وأبعده أكثر من عشرة أمتار .
     فقال له الرجل :
     ـ ارجع .. يا عجوز .. أحسن لك ..
     واطلق الرجل رصاصة .. فى الماء .. سقطت تخشخش .. كالحجر ..
     ولم يجد الصياد بدا من الرضوخ .. فرسى على الشاطىء فى لفة واحدة ..
     ونزل الرجل معنا دون أن يلقى علينا التحية .. وفى تلك اللحظة فكرت فى قيمة المسدس .. كضرورة حتمية فى مثل هذا الموقف .. ورمانى بنظرة فاحصة ثم جلس على مبعدة من المرأة ..
     ولقد كنا نحس بالسعادة والهدوء فلما جاء هذا المسلح .. شوه وجه الحياة الجميل فى وجوهنا .. وأشاع فينا الخوف والرهبة ..
     ونظرت إلى سحنته وكلها صرامة .. وعدت أقارنه .. بالوجوه الحسنة السمحة التى كانت منذ ساعات فى مضيفة الشيخ عبد الرحيم .. خاشعة صامتة متفتحة للحياة ..
     أما هذا الوجه الصارم الكئيب فإنه يحمل وجه شيطان ..
     ونظر إلى المرأة التى بجواره ثم رفع رأسه .. ونظر إلىّ نظرة قوية فيها كل معانى التحدى والاستخفاف ..
     وكان يمكن لهذا المخلوق أن يكون شيئا آخر .. وأن يكون انسانا .. فقد كانت سنه لاتزيد على الخامسة والعشرين .. ولكن كل حركاته كانت تدل على النزق .. وتركته فى الظلمة .. وعدت أسمع صوت المجاديف ..
                                      ***     
     ثم نظرت إليه مرة أخرى .. وكان وجهه أسمر .. وعيناه متقدتين .. والغرور يطل من جلسته .. والحقد أيضا .. وصلف الشباب وكبرياء الجهل .. وقارنته بالناس الطيبين الذين رأيتهم منذ ساعات فى مضيفة الشيخ عبد الرحيم .
     وساءلت نفسى كيف يخرج منهم مثل هذا الشاب ؟
     انه شوك فى الزرع الطيب .. وهو الذى يسود وجه الريف .. ويحجب عنه ضوء القمر .. ويجعل أهله وأعيانه يهربون إلى المدينة ..
     وهو الذى جعل الريف المصرى متخلفا مظلما ورهيبا .. واحسست بحاجتى فى هذه اللحظة لأن يكون معى سلاح .. وما حملته قط .. لأستطيع أن أقف فى وجه الشر وأواجه هذا العدوان ..
     وماذا نفعل أنا والصياد العجوز والفلاحة الحسناء .. أمام شاب مسلح بمدفع رشاش .. كان قد وضع المدفع جانبا .. القـاه مـن يده .. كأنه يستخف بنـا .. ويستضعفنا أمام جبروته ..
     وفكرت فيه .. إذا سولت له نفسه أن يرتكب حماقة .. إذا اشتهى الفتاة وتبعها .. بعد أن يخرجا من القارب .. وهناك بين النخيل .. يهددها بسلاحه .. وهل تستطيع أن تقاوم .. وفكرت فيه .. إذا تصور أن معى من المال ما يغريه على سرقتى وقتلى .. وفكرت فيه إذا تصور مثل هذا فى الصياد العجوز ..
     ومثل هذا الشاب يقتل إنسانا بكل بساطة ليشترى علبة سجائر .. أو يذهب إلى غرزة ..
     وكان الشيخ العجوز يجدف فى صمت .. وقد توسط النهر .. وكان هناك خط أبيض وراء المجاديف .. يدور .. ثم تطويه صفحة الماء .. وكانت عيون الصياد ترقب الشاطىء الآخر باهتمام شديد ..
     وكان يقترب من هناك .. وبدا النخيل الكثيف .. عند قرية الوليدية .. وسمعنا هدير الخزان .. ولاحت المصابيح .. الكابية من بعيد .. ولاحت بادرة الحياة ..
     ولكن بدا لى أن الصياد يتراجع بنا ولايتقدم ..
     وقالت الفتاة :
     ـ طلعنى تحت وابور الشيخ خليفة يا عم ..
     ـ حاضر .. يا بنتى .. بس لما نطول البر ..
     وكان الرجل يبذل جهدا جبارا .. وسط جبال من الماء .. وبدا العرق على وجهه .. ولاحظت مجدافيه .. جيدا .. لم يكونا فى طول واحد .. وكان أحدهما مربوطا من وسطه بحبل متين من الليف ..
     وكان الصياد يرقب الشاطىء الآخر بعين صقر .. ويجدف بقوة وبحركة رتيبة .. ولم نسمع إلا صوت المجاديف .. واشعلت سيجارة .. وأشعل مثلها الشاب المسلح وأصبحنا نارين .. متقابلين ..
     وكانت عيناه على وجه الفتاة السافرة .. وهو ينفث دخانه ..
     ورحت مثله فى جذبة الدخان وهى ترخى الأعصاب فى الليل الحالم .. وأرخيت أهداب عينى .. ثم تنبهت على فرقعة .. ولما نظرت وجدت المجداف قد انكسر فى يد الصياد ..
     وبدا وجهه متجهما لحظات .. ورماه الشاب المسلح بنظرة صاعقة ..
     وظل الصياد فى مكانه .. مالكا زمام أعصابه .. ووجهه ساكن ..
     وقلنا له فى نفس واحد :
     ـ ما الذى ستعمله ياعم ؟..
     ـ لاتخافوا .. سنصل البر بإذن الله ..
     وعاد الرجل يعمل بمجداف واحد .. وكان يسير بالزورق فى بطء ولكنه على أى حال اقترب من الشاطىء ..
     ولاحت فوقنا كثف من أشجار النخيل الصغيرة المعرشة فاتجهنا إليها بأنظارنا مرة واحدة ..
     وكانت يد الشاب المسلح على بندقيته وبدا من نظرته أنه يتحفز لشىء .. وانه ينفذ من خلال الظلام .. إلى شىء غير مرئى لنا ..
     وفى تلك اللحظة ظهر لى رجل الليل الرهيب على حقيقته .. تجمع .. ثم ركز حواسه كلها فى باصرته .. ورمانا بنظرة رهيبة ..
     واقتربنا من خليج صغير دار فيه القارب .. وقبل أن نخرج منه .. وثب الشاب المسلح .. إلى الشاطىء .. دون أن يلقى علينا التحية ..
     وتبعناه ببصرنا .. لحظات وهو يمضى وحده كالذئب .. ثم لاح لنا شىء ينحدر عن التل .. تكشف لنا .. وكانت ثلاثة خيول مسرجة ..
     ورأينا دخان المعركة .. بين جنود الخيالة .. وبين الشاب المسلح ..
     وقبل أن يطوق الشاب .. أطلق رصاصة على القارب .. فأصابت الشيخ العجوز فى كتفه ..
     واقتربت منه أنا والفتاة لنغسل له الجرح .. وأدركت عمله العظيم .. أدركت أنه كسر المجداف عامدا .. حتى يعوق الشاب فى وسط النيل إلى أن تطير اشارة المركز ويأتى العساكر ..
     وسألته :
     ـ لمن فعلت هذا ياعم ؟
     فنظر إلى الفتاة ولم ينطق وأحسست مثله فى هذه اللحظة بأنى أفديها بروحى لتظل هذه الزهرة أكثر نضارة ..
================================= 
نشرت فى صحيفة الشعب ـ العدد 1121 فى 9|7|1959 وأعيد نشرها فى كتاب " غرفة على السطح "1960
=================================  












التفاحــة

     ذات ليلة من ليالى السبت كنت أسير وحدى فى شارع جنزا .. ذلك الشارع المتألق بمدينة طوكيو دون وجهة معينة .. ودون رغبة ..
     وأخذت أستعرض واجهات المحلات التجارية بأنوارها الزاهية .. وأرقب المارة فى زيهم المختلف الأشكال وفى أناقتهم البالغة .
     وكان منظر النساء فى لباس الكومينو يستهوى النفس ويأخذ بمجامع القلب . ورأيت فتاة يابانية فى زى أوروبى تقف على ناصية تحت مصباح أزرق وقفة رائعة ونظرها يتجه إلى بالون كبير مضىء يدور فوق إحدى السطوح !
     ورأيت شابا على بعد امتار منها يلتقط لها صورة .
     فوقفت أتأملها .. كانت الفتاة رائعة الحسن حقا ومن نوع جديد شديد الإثارة . لم تكن تسرف فى زينتها ككل اليابانيات .. بل كانت متأنقة فى جمال طبيعى وفتنة فى العينين الذابلتين وفى الشعر الأسود الشديد اللمعان وكانت تسريحتها يابانية جميلة ووجهها أبيض نضيرا ..
     وكانت ترتدى جونلة وصديرا من الصوف البنى .. ينسجم انسجاما رائعا على جسمها الرشيق .. ووقفت أتأملها والمصور يلتقط لها الصورة ثم حركت قدميها الصغيرتين ومضت فى الشارع وحمل المصور آلته ومضى وراءها ..
     ولما خرجت من هذا الشارع الكبير إلى الشوارع الجانبية الضيقة المتألقة فى الليل الحالم .. رأيت هذه الفتاة تقف نفس الوقفة للتصوير .
     ثم رأيتها مرة ثالثة فى مكان آخر ، ولما وقفت أرقبها هذه المرة رمقتنى وابتسمت كانت تتصور أننى أتبعها عامدا .. مع أن لقاءنا فى كل هذه المرات.. كان من قبيل المصادفة البحتة وتركتها فى زحمة الناس وأنا مأخوذ بسحر جمالها ..
ومضيت أتجول فى المدينة الضخمة حتى أحسست بالتعب وجذبتنى قهوة صغيرة على الطريق فدخلتها لأستريح وسرنى الهدوء الذى لمسته فيها والموسيقى الخفيفة التى تنبعث من الجرامافون . وكان سقفها وأرضها وسلمها الداخلى من الخشب المزخرف المطعم . وعلى الحوائط رسومات زيتية رائعة .
     وكانت القهوة من طابقين والموائد صغيرة وأنيقة والكراسى طويلة ومكسية بالقطيفة وأصص الزهور فى كل ركن وكان فيها سبع بنات حسان يقمن بالخدمة ..
     وانحنت أمامى حسناء تسألنى فى أدب ورقة عما أطلب .. ولقد عرفتها فى الحال كانت هى الفتاة التى شاهدتها منذ ساعة تتصور فى الطريق ..
     وقلت لها وأنا أنظر إلى السواد المتألق فى عينيها ..
     ـ زجاجة صغيرة من البيرة ..
     ـ لا يوجد هنا بيرة ..
     ـ لا توجد بيرة .. ؟
     ـ إطلاقا .. إنه مقهى كما ترى فيه قهوة وشاى .. وعصير فواكه ويمكن أن تطلب وجبة خفيفة ..
     ـ إذن سأشرب قهوة ..
     ـ حالا ..
     واستدارت نصف دورة بين الكراسى والموائد .. ثم هبطت سلما خشبيا صغيرا وأخذت أعد ضربات أقدامها على الخشب وعادت بعد قليل تضع أمامى طبقا فيه فوطة بيضاء مبلولة .. يتصاعد منها البخار .
     وكنت أعرف أن هذه الفوطة تقدم دائما فى طوكيو قبل الطعام والشراب وحتى عند الحلاق !
     فقلت للفتاة مداعبا ..
     ـ إن حى جنزا كالبلور .. فمن أين يأتينى العرق والتراب .
     ـ ستشعر على أى حال بالراحة بعد مسح وجهك !
     ولقد شعرت بالراحة فعلا منذ وضعت قدمى فى هذا المكان .. فجوه الشعرى الحالم .. يرخى الأعصاب .. ويهز المشاعر وكان هناك ثمانية من الرواد .. جلسوا فى هدوء وصمت .. والشىء المتحرك فى المكان .. كان شابا يابانيا ينهض كل دقيقة إلى التليفون .. ثم يعود إلى مائدته ، وكلما وضع السماعة كان يتحدث مع صاحبة القهوة وكانت جالسة على « البنك » تبتسم له وتحيى الداخلين والخارجين بابتسامة أيضا .. وانحناءة من رأسها .. وكانت هناك فتاة واقفة وراء الباب تفتحه للداخلين وهى تحييهم تحية الاستقبال ..
     وجاءت فتاتى تتهادى وتحمل القهوة ..
     وكان ثمن الفنجان 60 ينا ..
     فأعطيتها قطعة بمائة ين .. ولما ردت الباقى قلت لها إنه بقشيش ..
     وقالت برقة وقد أحمر خداها ..
     ـ إننا لا نأخذ بقشيشا .. ؟
     ـ لماذا ؟
     ـ هذه تقاليد القهوة ..
     وكانت صاحبة المحل ترقبنا بابتسامة فطويت الباقى فى جيبى ..
     ولاحظت أن الفتيات الأخريات يحادثن الرواد ما دام ليس لديهن عمل ..
     فقلت لفتاتى ..
     ـ لقد شاهدتك تتصورين هناك ..
     ـ وأنا رأيتك أيضا ..
     ـ هل كانت الصورة .. كتذكار ؟ ..
     ـ أبدا .. إن المصور يبيعها لمجلات أميركية .. فوج .. ولوك ..
     ـ وكم تأخذين على الصورة .. ؟
     ـ خمسمائة ين ..
     ـ خمسمائة ين ؟ ( 50 قرشا ) إنه يبيعها بمئات الجنيهات !
     ـ إن العملية .. لم تستغرق أكثر من نصف ساعة .. والخمسمائة ين لا بأس بها لفتاة مثلى ..
     ونظرت إلى وجهها الضاحك .. وكنت أود أن أقول لها إنها تساوى كل ما فى الأرض من ذهب ..
     وسألتنى ..
     ـ هل تحب أن تسمع موسيقى شرقية ؟
     ـ يسرنى هذا ..
     وأذاعت بعض الموسيقى الهندية .
     وسألتها ..
     ـ إلى متى يبقى المقهى مفتوحا ؟
     ـ حتى الحادية عشرة ..
     ـ وبعد ذلك ؟
     ـ نذهب لننام ..
          وضحكت ..
     ـ وإذا ذهبنا إلى السينما أو المسرح ..
     ـ لا يوجد مسارح فى طوكيو فى مثل هذه الساعة .. والسينما .. ماذا يبقى على الفيلم ؟
     ـ تكفينى نصف ساعة .. الغرض أن نتنزه معا ..
     ـ تعال غدا .. وسأتفق مع إحدى زميلاتى .. ونخرج من الساعة التاسعة..
     ـ فى الساعة التاسعة غدا سأكون فى المطار ..
     ـ حقا .. راحل عنا سريعا ..
     ـ بكل أسف .. يضطرنى عملى لهذا .. وأرجو أن تحققى رغبة شخص غريب يحب اليابان .
     ـ ما هى رغبته ؟
     ـ أن نتجول ساعة فى حى جنزا ..
     وفكرت قليلا .. وهزت شعرها .. ودفعت سوالفها بيديها .. ثم قالت بنعومة ..
     ـ انتظرنى على ناصية الشارع .. وسآتى بعد دقائق ..
     وشكرتها بقلب حار .. وخرجت من المقهى .. وأنا أطير من الفرح ..
***
     وانتظرتها وجاءت .. وأخذنا نتجول فى المدينة الحالمة .. ونرى الفوانيس من كل الألوان على واجهات البيوت .. والبالونات .. تضيئ بالألوان الزاهية..
     وكانت السماء تمطر رذاذا ، وشىء خفيف كهزة الزلزال .. ترج المنازل..
     وأمسكت بيديها .. ولم يكن هناك شىء فى الوجود يمكن أن يفصلنى عنها فى مثل هذه الساعة .
     كنت لا أعرف اسمها .. وكانت لا تعرف اسمى .. ولكنا شعرنا بعاطفة قوية جمعتنا معا ..
     وكنت أسمع دقات قلبى كأنها تناديها .. لتقترب منى أكثر وأكثر فى كل خطوة ..
     ومشينا على مهل نتمتع بالجمال .. ثم دخلنا مرقصا من المراقص التى تسهر إلى الصباح لنجد وقتا طويلا نقضيه معا ..
     وجلسنا متجاورين نتحدث ومن عجب أننى لم ألتفت إلى الرقص وكان المرقص يضم أشهر الراقصات فى طوكيو ..
     وسألتنى .. بعد أن خرجنا ..
     ـ هل أعجبك الرقص ؟
     ـ إننى لم أشاهد شيئا ..
     ـ لماذا ؟
     ـ إن حواسى كلها كانت متجهة إليك ..
     ـ إلى هذا الحد أنت معجب بى ؟
     ـ اسمعى دقات قلبى ..
     فضحكت
     وقلت لها وأنا أضغط على يدها ..
     ـ هل يمكن أن نختم هذه الجولة .. بفنجان من الشاى فى الفندق .
     ـ كما تحب .. ولكن لا تؤخرنى كثيرا عن بيتى ..
     وأحسسنا بالجوع .. فأكلنا لحما مشويا على النار .. ونحن وقوف فى مطعم شعبى قرب محطة شمباسى ..
     واشترينا أربع تفاحات كبيرة لنأكلها فى الفندق ..
     ولما وصلنا باب الفندق الدوار لم نجلس فى البهو بل وجدت نفسى .. أسير بها إلى المصعد .. ومشت بجوارى صامتة ..
     ودخلنا غرفتى .. وجلست محمرة الوجه .. ساكنة .. وسألتها ..
     ـ هل نطلب شايا ؟
     ـ يكفى أن نأكل التفاح ..
     وتناول كل منا تفاحة .. وأخذنا نأكل ونضحك ..
     وخلعت بلوزتها .. وجلست بجوارى .. فكنت آخذ قضمة من التفاحة وأقبل فمها .. وكانت حلاوة فمها أحلى من التفاحة .
***
     ولم يكن فى غرفتى الصغيرة مرآة .. فذهبت إلى الحمام لتتزين وعادت كالعروس .. فوجدتنى ألقى بالتفاحة الأخيرة والباقية منها فى سلة المهملات وكنت قد أخذت منها قضمة ..
     ـ ولماذا تلقيها فى السلة ؟
     ـ شبعت ..
     ـ ولكنها خسارة ..
     ووضعت يدها فى السلة وأخرجتها ولفتها فى ورقة ..
     ـ لماذا فعلت هذا ؟ ..
     ـ سأخذها لوالدتى .. إنها لم تذقه قط !
     وكأنما لسعنى سوط .. فمزق لحمى .. وانتفضت .. وذابت كل عواطفى الجياشة فى تيه من المشاعر المتضاربة .
     وأخذت أسائل نفسى .. هل والدتها فى حاجة إلى تفاحة معطوبة .. اشتريناها بأربعة قروش وهل هى فى حاجة إلى مثل هذا المبلغ وأقل منه لتأكل التفاح .. أى بؤس وأى حياة تاعسة تعيشها هذه المسكينة وأمها .. وأنا لا أدرى ولا أفكر إلا فى رغبات حواسى ونزواتى ..
     وكانت الفتاة فى قميص النوم فى هذه اللحظة وقد تهيأت للفراش ولم تفهم ما دار فى رأسى ونظرت إليها كشىء ذليل يمزقه الفقر ويمنحنى نفسه .. عن حاجة وليس عن رغبة .. وليس عن حب ..
     واستراحت على الفراش .. فأمسكت بيديها ..
     وسألتنى بصوت خافت ..
     ـ ألا تخلع سترتك ؟
     ـ أبدا ..
     ـ لماذا .. ؟
     ـ لأننى سأرافقك إلى بيتك .. فى الحال وسأشترى لوالدتك صندوقا من التفاح ..
     وفاضت عبراتها .. فأمسكت بيدها .. وضغطت على يدى وشعرت بالحرارة الإنسانية لأول مرة .. الحرارة الخالصة للنفس البشرية .. الحرارة المتدفقة من أعماق القلب ..
=================================  
نشرت القصة فى كتاب " غرفة على السطح " فى سنة 1960
=================================




      




   
المصباح

حدث منذ سنوات وكنت شابا يعتمد على نفسه .. ويتطلع إلى المستقبل بأمل وقوة .. أن أقمت عند أرملة إيطالية .. كانت تسكن فى عمارة ضخمة بشارع الشيخ حمزة فى حى قصر النيل ..
وكان المسكن فى بناية قديمة ومكونا من أربع غرف فسيحة وكنت أشغل أصغرها وألصقها بغرفة الأرملة .. وأطفالها الثلاثة ..
وانقضى على سكنى عندها أسبوع كامل ولم أكن قد شاهدت من يشغل الغرفتين الأخريين .. وكان هذا لا يعنينى فى شىء ..
وكان البنسيون عائليا .. وهذا يعنى أنه لا يوجد به دفتر للنزلاء يطلع عليه البوليس .. وكانت صاحبته امرأة مسنة .. أبيض شعرها .. ولكن وجهها بقى سمينا أحمر يفور بالدم .. وقد خلا من التجاعيد ..
وكانت عصبية حادة الطبع لا تكف عن الصراخ بالإيطالية وهى تحسب أن كل الناس يعرفونها .. وكان صراخها لا يزعجنى .. لأنى كنت أذهب إلى بيتها .. لأضع رأسى على المخدة .. طارحا وراء ظهرى كل ما يحدث فى الخارج ..
***
وذات ليلة من ليالى الشتاء .. وكنت سهرانا وأحسست وأنا أنهض فى الصباح برعشة فبقيت فى الفراش .. إلى الضحى .. وفى الصباح رأيت ساكن الغرفة الثالثة .. وكان رجلا طويلا ممشوق القوام جاوز سن الشباب ولكنه بادى الصحة وكان حسن الهندام يحتفظ بشاربه المفتول وطربوشه الطويل .. وعصاه العاجية وكنت ترى على صدره سلسلة ساعته الذهبية .. وترى فى أصبعه خاتما كبيرا من الياقوت ..
كان من ذوى الأملاك فى القاهرة .. ولا عمل له ولا صنعة ويبدو كأنه مقطوع الأهل .. وكان يقتل الفراغ بالتنقل بين القهاوى .. وعندما رأيته تذكرت أننى صادفته أكثر من مرة فى قهوة منيرفا ..
وكان يسكن فى الغرفة الرابعة شابان متزوجان حديثا ويبدو أنهما تخلصا من مشكلة الجهاز .. بالإقامة فى البنسيون .. ولم أشاهد الزوج وإنما رأيت الزوجة وهى تحمل شيئا إلى غرفتها .. وكانت طويلة ولفاء وجمالها يبهر الأبصار .. وكان سكان المنزل قلوا أو كثروا يتضاءلون أمام صاحبته .. فقد كانت دائبة الحركة والعمل .. ومع أننى كنت أنام عندها فقط .. ولا آكل ولا أغسل ثيابى .. فقد كانت تعدنى النزيل الأول .. لأنى أعيش وأعمل فى القاهرة أما الآخرون .. فعابرون .. ولكننى كنت أحس أن طريقتى الانطوائية لا تعجبها .. فلم أكن أشترك معها فى سهرات يوم الأحد .. ولا كانت ترانى أحادث إحدى زائراتها أو أدعو امرأة إلى السينما أو العشاء فى الخارج ..
وكشاب مصرى يشق طريقه فى الحياة بعرق الجبين .. ويشغل العمل كل وقته لم تكن هذه الأشياء تخطر لى على بال وإن خطرت كانت تعبر سريعة كسحابة الصيف ..
وكانت صاحبة البيت كمعظم الأرامل دائبة الشكوى من الحياة .. ومن الناس ..
وكان صراخها يزعج .. ويدها تتحرك على أطفالها .. ما داموا متيقظين ..
وكان عراكها مع لطفى أفندى صاحب الأملاك .. لا ينقطع وكان هو كثير الضحك وينقلب ضحكه إلى ثورة عاتية .. إذا تطور النزاع .. تبعا لحالتها النفسية ..
ولم أكن أدرى لم يستمر مقيما عندها بعد كل هذه المنازعات ..
***
وكانت تضع صورة المرحوم زوجها البرتو .. على مائدة الزينة فى غرفتها .. وتجعل وجهها إلى الحائط إذا كان الصفاء تاما بينها وبين لطفى .. فإذا تعاركا .. عادت تضع الصورة معدولة ..
وكانت إذا ثارت تتحرك فى البيت كالزوبعة وتحمل أمامها كل ما تصادفه .. من آنية وأكواب .. ثم تعود هادئة بعد العاصفة .. ويبدو فى عينيها الصفاء والرقة وفيما عدا هذه العواصف المؤقتة التى تمر كأيام الخماسين .. كان البيت هادئا ويعد نموذجيا ..
وكان لطفى أفندى صاحب الأملاك الأعزب .. هو أكثر المقيمين مكوثا فى البيت .. وكان يلتف حوله الأطفال .. وأراه جالسا معهم يضاحكهم وكان الأطفال يحبونه .. وعندما يأتى فى يوم السبت بجريدة السباق ويحدثهم عن الخيل وعن الحصان مرزوق .. وكيف يجرى بسرعة البرق فى الميدان .. كان يخيل إليهم أنه يجرى أمامهم .. وفيما عدا الخمر التى كان يشربها بكثرة .. والتى كان بسببها يثور .. ويمكث فى البيت .. فإنه فيما بدا لى كان إنسانا كأى مخلوق على ظهر الأرض ..
وكانت المدام رغم منازعاتها الكثيرة معه .. واخراج حقيبته ووضعها على الباب تعرف أنه أحسن النزلاء .. وأنه يدفع بسخاء .. ويقوم عنها بنصف الحمل .. فقد كان يأكل معهم ..
***
وكانت العروسة زبيدة المتزوجة حديثا .. دائمة القعود فى البنسيون .. ولا تنزل إلى الشارع إلا قليلا .. والواقع أنها جاءت إلى القاهرة لأول مرة ..
وكان قد انقضى على وجودها فى البيت معنا شهر .. والفتاة تبدو كأجمل من تحمله الأرض .. ضاحكة طروب .. وكانت حلوة التقاطيع ملفوفة الجسم رشيقة ..
***
وحدث ما لم يكن مقدرا فى حسبان أحد .. نزل زوجها فى صباح يوم كعادته ولم يعد .. وظلت الفتاة طول الليل فى غرفتها تبكى ..
وفى اليوم التالى بقيت محبوسة .. وتصورنا أن زوجها خليل .. وقع له حادث فأخذنا نطالع الصحف .. وأخبار الحوادث باهتمام .. ولكنا لم نعثر على خبر يدل عليه ..
وكانت صاحبة البيت حزينة أكثر من أى إنسان لأن خليل لم يدفع مليما منذ سكن .. وأصبحت زبيدة رهينة فى البيت ..
***
وعصر يوم من أيام الخميس .. كنت أتناول ساعتى من أحد الجواهرجية فى الحى فوجدت زبيدة .. واقفة أمامى تتحدث مع صاحب الحانوت .. ولم ترنى وأنا داخل ..
وسمعت الرجل يقول لها وهو يعيد شيئا إلى يدها :
ـ هذه ليست بذهب .. يا سيدتى .. ولا تساوى شيئا ..
فاصفر وجهها .. واستدارت فرأتنى .. فازداد اضطرابها وخرجت مسرعة ..
وبعد دقيقة واحدة .. رأيتها تسقط أمامى فى الشارع .. وجريت نحوها .. وقبل أن يتجمع الناس .. حملتها فى تاكسى .. إلى مركز الإسعاف .. وكان قريبا منا .. وقال لى الطبيب وهو يعطيها حقنة :
ـ إنها جائعة .. وهذا سبب الإغماء .. لم تأكل من يومين .. فعليك بوجبة ساخنة ..
ولما استفاقت واستراحت قليلا .. نظرت إلىّ وإلى ما حولها .. وأدركت ما حدث ..
وخرجنا إلى الطريق .. وركبنا أول أتوبيس صادفنا .. وركبت دون أن تسألنى عن وجهتى .. كانت مسلوبة الإرادة من الإعياء والجوع .. ولم أكن وأنا أركب الأتوبيس قد عرفت وجهتى .. فلما رأيت العربة تتجه إلى مصر الجديدة .. سررت فقد كانت زبيدة فى حاجة إلى الهدوء بعيدا عن صخب القاهرة وضجيجها ..
وجلسنا فى شرفة مطعم صغير .. يطل على الصحراء .. وكان الليل قد سقط ونشر وشاحه حوالينا ..
ورفضت أن تأكل ثم أدارت الملعقة فى الحساء فى بطء وتثاقل .. ورأيتها أمامى ذليلة تخنقها العبرات .. ولما جفت دموعها .. أخذت تتحدث ..
قالت لى أنها أحبت خليل حبا جنونيا .. وقررا الزواج ولما أدركت أن أهلها فى الإسكندرية .. لا يوافقون على هذا .. هربت معه إلى القاهرة لتتزوج فيها .. ولكنها لم تتزوج .. تركها قبل أن يعقد عليها .. كانا سعيدين فى الأسبوع الأول معهما نقود ويصرفان بسخاء .. ولا يفكران فى شىء .. حصرا وجودهما فى جسميهما .. وانفصلا عن العالم كله .. ولما نفد ما معهما من مال استفاقا من غشيتهما .. وابتدأ العراك .. والخلاف ..
وفى صباح يوم خرج .. ولم يعد .. وهى الآن لا تستطيع أن تعود لأهلها بعد كل ما حدث .. لا تستطيع ولو شنقت ..
ورأيتها أمامى .. جميلة شابة .. كالزهرة المتفتحة .. ولكنها ذبلت قبل الأوان وتلطخت فى الوحل ..
وهى الآن تقف على رأس الهاوية .. واعتصر قلبى الألم .. لأنى لا أستطيع أن أفعل لها شيئا ..
وفكرت فى عمل لها .. ولكن الفتاة لم تكن متعلمة ..
وكان جمالها فى الحقيقة .. وهو أبرز شىء فيها .. أسوأ ما فى المسألة .. والواقع أنه مع كل الحلول التى فكرت فيها لم أفكر قط فى أن أتزوجها .. ولم تخطر لى هذه الفكرة على بال .. كأننى كنت أحملها نتيجة الخطأ الذى تردت فيه ..
وكان إصرار الفتاة على عدم العودة إلى أهلها يجعل الطريق أمامها مسدودا ..
وعندما عدت بها فى الليل إلى البنسيون .. تصورت المدام أن زبيدة أصبحت عشيقتى .. فسرت لأنى حللت مشكلة إيجار الغرفة .. وكانت زبيدة تغلق عليها الباب بالمفتاح .. وتنام للصباح تاركة الأمر للمقادير ..
وكان أجرى الشهرى لا يساعدنى على الانفاق عليها ومع هذا فقد أخذت بعد حادث الإغماء .. أتغدى فى البيت لتأكل معى .. ولكنها كانت لا تأكل إلا قليلا وهى تحس بألم وذلة ..
وكان لطفى يقدم لها الطعام والفواكه ولكنها كانت ترفض ما يقدمه بإصرار ولم يكن مع الفتاة أى شىء تبيعه لتعيش منه .. لا ملابس ولا حلى .. وكانت هذه الحال السيئة تطير لبها وتجعلها تتحرك فى البيت وكأنها فقدت روحها ..
***
وفى صباح يوم طلبت المدام أن أبحث لها عن شخص محترم يؤجر الغرفة .. لأنها لا تحب من يأتى بهم السماسرة .. وسألتها :
ـ أى غرفة ..؟
ـ غرفة زبيدة ..
ـ ستطردينها ..؟
ـ سى ..
ـ حرام .. أنها مسكينة .. أين تذهب .. وكيف تعيش ..؟
ـ تعيش كما يعيش غيرها من النساء .. إنها لم تدفع أجر الغرفة ثلاثة شهور .. حرام أن أميت الأطفال من الجوع ..
ـ هذه قسوة شنيعة .. من أنثى ..
فنشرت جناحيها وهى تصيح :
ـ ألورا .. ألورا ..
وتركتها وخرجت ..
ولكن بعد يومين إثنين .. عدلت عن رأيها وقالت لى زبيدة باقية .. تنتظر عودة الشاب الذى جاء بها إلى هنا ..
ولم أعلق على هذا بشىء مادامت هى راضية عن وجودها ..
ولاحظت أن زبيدة أخذت تتزين كما كانت .. وتبدو مجلوة ضاحكة كأن الغمة قد انزاحت عنها ..
وفى مساء يوم من أيام الآحاد .. كانت المدام قد خرجت بأطفالها للنزهة وذهب لطفى إلى ميدان السباق .. فوجدت زبيدة فى البيت وحدها ..
وأخذنا نتحدث .. وتطور بنا الحديث حتى حدثتنى بأنها ستتزوج .. وانتفضت كأنى لسعت ..
ـ أنت .. من ..؟
ـ لطفى أفندى ..
ـ لطفى .. وهل تطمئنين إليه ..؟
إنه أحسن حل للمسألة ..
ـ ومن يحضر المأذون ..؟
 لن يحضر .. مأذون .. سيكون الزواج بورقة عرفية ..
وضحكت ساخرا ..
ـ وهل ترضين بهذا الهوان ..
ـ وما الذى أفعله يا سى إبراهيم .. أريد أن أعيش .. لقد قتلنى الجوع ..
هل تقبل أن تتزوجنى أنت ..؟
وفوجئت بالسؤال .. الصاعق .. ولم أنبس .. واستمرت تتحدث ..
ـ أريد أن أعيش .. أشبع بطنى .. أعرف أنه سيطردنى بعد شهر أو شهرين .. ولكنى أريد أن أعيش فى هذه اللحظة .. وهذا يكفى .. والليلة سأذهب إليه .. فى غرفته .. وأنهى هذا الجحيم .. وظلت تبكى ..
***
وبعد الغروب رأيتها متزينة .. وكان لطفى متأنقا كعادته .. وذهبا إلى السينما وعادا بعد الساعة التاسعة .. وهما فى غاية السرور ..
وشعرت بشىء يجثم على صدرى ولم أستطع تعليل هذه المشاعر .. ألأنى رأيت هذا الجمال يفلت من يدى بسهولة ويذهب إلى غيرى .. شعرت بالانقباض ..
وظللت ساهرا .. ولم أغلق باب الغرفة ..
خلعت زبيدة ملابس الخروج .. وذهبت إلى الحمام .. ساعة وقد احتقن وجهها ونفشت شعرها .. ورمت بابى بنظرة ثم مضت ..
وتمددت بعد أن مرت أمامى على الفراش .. ولا أدرى أدخلت غرفته أم غرفتها ولكننى ظللت متنبها حتى سمعتها تصيح ..
ولما خرجت من الباب كانت واقفة على باب غرفتها بالقميص .. ولطفى يحاول أن يدفعها إلى الداخل وهى تمتنع .. وتصيح :
ـ لن يمسنى رجل .. كلكم وحوش .. كلاب .. أخرج .. أخرج ..
كانت تصيح كمن أصابه الجنون .. ودخلت غرفتها وأغلقت الباب بالمفتاح ..
***
وفى الصباح الباكر .. لم نجدها .. أخذت حقيبتها الصغيرة وذهبت ..
***
ومر عام كامل ..وتركت البنسيون .. وسكنت فى بيت بمصر الجديدة .. ولمحت وأنا أعبر الشارع الذى فيه بيتى ذات يوم لافتة فى الدور الأرضى فى بناية حديثة ..
( مصبغة وتنظيف )
وكان عندى بدلة لوثها قطار الصعيد فحملتها ودخلت المحل ..
وتناولها منى صبى صغير ..
فقلت له :
ـ ممكن تخلص بكرة .. علشان مسافر ..
فقال الصبى :
ـ حسأل الست ..
ودفع ستارا ودخل بالبدلة ..
وسمعت صوتا أعرفه يقول فى الداخل :
ـ ممكن بعد الظهر .. الساعة خمسة ..
ـ الساعة خمسة ..؟
ـ سى ..
قالت زبيدة هذا .. وهى تدفع الستار .. وترانى .. أمامها .. وكانت السترة بيدها .. فضمت عليها أصابعها لحظات .. ثم نشرتها على الطاولة .. وأخذت تنظر إلىّ .. ورأيتها أمامى كما كانت جميلة أخاذة .. وسمعت بكاء طفل حديث الولادة يأتى من الداخل ..
وابتسمت زبيدة .. لما رأت وجهى يتغير .. وأشارت بسبابتها وهى تضحك .. إلى شاب .. يجلس فى الخارج .. تحت المصباح يرفو الملابس ونظر إليها الشاب .. ولم يفهم .. ثم ابتسم .. كان وادعا مشرق الوجه ..
وأدركت كيف اجتازت المعبر بسلام .. بعد أن أضاء لها هذا المصباح .. وعندما قلت لها وأنا خارج :
ـ شاو ..
مدت ذراعها العاجى .. ولوحت به قائلة :
ـ شاو ..
وكان السرور يطل من عينيها وقلبها ..
=========================
نشرت القصة فى صحيفة الشعب بالعدد 117 بتاريخ 30/9/1956 وأعيد نشرها فى كتاب " غرفة على السطح " سنة 1960
======================== 
 










 
جَــذوة فى الرماد

     حدث فى صباح يوم من أيام الخميس وأنا أتجول وحدى بحى الستى فى هونج كونج وكنت قد اخترقت شارع كوين رود .. باحثا فى واجهات الحوانيت عن آلة تصوير نادرة كلفنى بها صديقى أحمد ـ قبل أن أبرح القاهرة ـ أن أحسست بألم حاد فى أسنانى لم أستطع احتماله ..
     وكنت قد شعرت بمثل هذه الأوجاع وأنا فى بانكوك .. ولكنها كانت تأتى لفترة قصيرة .. ثم تمضى .. وأنساها فى خلال المباهج المثيرة التى أراها .. فى الرحلة .. ولكن فى هذه المرة أحسست بها تمزق لثتى وأحسست مثل طعن الإبر الحادة فى فكى الأسفل .. وفكرت أن أتصل بالفندق تليفونيا .. وأعرف منه عنوان طبيب أسنان ..
     ولكننى لمحت أجزخانة فى الشارع فدخلتها .. وسألت الرجل عن طبيب أسنان فدلنى على طبيب فى الشارع المجاور ..
     وصعدت إلى الطابق الثالث .. فى عمارة ضخمة .. وأحسست وأنا أقرع الجرس بأن الألم قد زال .. فكرت فى أن أعود لولا أن رجلا قصيرا قبيح الوجه فتح لى الباب فى هذه اللحظة وانحنى لى دون أن ينبس .. وقادنى إلى حيث توجد سكرتيرة الطبيب وكانت شابة ترتدى ملابس متأنقة فأحنت رأسها وابتسمت ..
     وسألتها بالإنجليزية عن الطبيب وأنا أضع يدى على خدى ..
     فسألت برقة :
     ـ هل معك ميعاد .. ؟
     ـ أبدا .. إنى شعرت بالألم الساعة ..
     ـ سنجعل الميعاد فى صباح الاثنين الساعة الحادية عشرة ..
     ـ إننى سائح .. وقد أسافر .. قبل ذلك ..
     ـ إذن سنجعله .. غدا ..
     ـ ألا يمكن الآن .. ؟
     ـ الآن .. لا يمكن أبدا ..
     ـ إننى أتألم .. انقلينى إلى المستشفى .. أنا غريب .. أرجوك ..
     فصوبت إلىّ نظراتها لمدة نصف دقيقة ..
     ثم قالت بصوتها الخالى من كل العواطف :
     ـ لحظة من فضلك ..
     وغابت عنى .. دقيقتين .. وفى أثناء ذلك عاودنى الألم بشدة .. وأحسست بفكى ينخلع ..
     وعادت السكرتيرة .. وقالت مبتسمة :
     ـ ستدخل بعد قليل ..
     ـ شكرا ..
     وتركتنى وحدى .. وأخذت أقلب بصرى فيما حولى .. لم أر فى القاعة مريضا سواى .. ولم يكن فى العيادة سوى هذه السكرتيرة .. والخادم .. الصينى الذى كان يقف كالأبله بجوار الباب الخارجى .. وكانت هناك ساعة تدق .. كل ربع ساعة .. وخلاف هذه الدقات لم أسمع أى حركة على الإطلاق ..
     وكانت أرضية الحجرة مغطاة بالمشمع .. والحيطان عارية من الصور .. ولكن الستائر الحريرية على النافذة .. وعلى الباب .. والمفارش المزركشة على المساند .. وعلى المناضد ..
     وطال جلوسى .. ولم يأت إلىّ أحد ولم أسمع حسا .. وخفت حدة الألم .. وكنت أود أن أنسل إلى الخارج .. فإن هذا الأبله الذى فتح لى الباب لا يمكن أن يعرف إن كنت قد دخلت على الطبيب أم لم أدخل ..
     وفى أثناء هذه الخواطر .. دخلت علىّ ممرضة جديدة لم أرها من قبل وقادتنى إلى غرفة الفحص ..
     ودخلت فوجدت سيدة فى منتصف العمر ترتدى معطفا من النيلون الأبيض وتضع على عينيها منظارا .. وتصورتها ممرضة أيضا .. ولكن لما أجلستنى أمامها على المكتب وأخذت تسألنى عن علتى أدركت أنها الطبيبة المختصة .. ولم أكن أتوقع أن أدخل على طبيبة صينية فى هونج كونج أبدا ..
     وكانت جامدة الوجه وهى تفحص أسنانى .. وكنت أود أن أعطيها كل ما فى جيبى من عملات مختلفة لتبتسم .. وأرى لون أسنانها .. ولكنها لم تخفف من جهامة ملامحها قط ..
     وعلى الرغم من هذه الجهامة البادية فقد كانت يدها رقيقة .. ولقد تحملت بصبر عظيم كل حدة أعصابى .. وفزعى من مجرد حركتها الخفيفة على اللثة ..
     وسألتنى :
     ـ لماذا تبدو .. عصبيا .. ؟
     ـ ليس لى ذنب .. فى هذا .. قد أكون ورثت هذه الأعصاب ..
     ـ أجل .. قد تكون ..
     وكانت تتحدث الإنجليزية .. بطلاقة ..
     ولما قلت لها .. بأننى كنت أتوقع أى شىء .. إلا أن أجد طبيبة فى هذا الشارع ..
     قالت :
     ـ لماذا .. ؟ هل هو شارع مهجور .. ؟
     ـ أقصد .. سيدة ..
     ـ لماذا .. ألا توجد عندكم طبيبات ..؟
     ـ عندنا .. ولكنهن قليلات جدا .. والبنات يرغبن فى الكليات الأخرى ..
     ـ لدينا كلية للطب .. وبها كثير من البنات .. وأنا درست الطب فى لندن .. وكان زوجى طبيبا أيضا ..
     ـ هذا رائع ..
     وسألتنى :
     ـ لماذا أهملت .. أسنانك هكذا .. ؟
     وشعرت بالخجل .. ولكننى قلت :
     ـ بالطبع .. لم أكن أتصور أننى أهملتها ..
     ـ لقد تركت هذه الطبقة الجيرية تتحجر فأنا الآن أكسر أحجارا ..
     وفزعت .. ونظرت إلى عينيها ..
     وأضافت هى بتؤدة :
     ـ قلت .. لمس تشن .. بأنك مسافر .. متى السفر .. ؟
     ـ سأبقى .. حتى ينتهى العلاج ..
     ـ هذا حسن ..
     ولانت ملامح وجهها قليلا ..
     كانت رقيقة الطباع حقا .. وكان صوتها عذبا .. وكانت متوسطة الطول جميلة الوجه فى السابعة أو الثامنة والثلاثين من عمرها .. ويبدو الشباب بكل قوته على وجهها .. وكانت الضمة التى فى جانبى جفنيها هى أشد الأشياء فتنة ..
     وسألتها بعد أن انتهت من عملها ..
     ـ هل يمكن أن أعرف مصاريف العلاج .. ؟
     ـ هل أنت طالب ..؟
     ـ لا .. إننى مجرد سائح ..
     ـ ستحدد لك سكرتيرتى المبلغ .. وتعرف منها مواعيد الزيارة ..
     وشكرتها ..
     وتركتنى .. ونفذت من باب آخر .. وكانت قد خلعت نظارتها .. وبدت متعبة .. ولكن وجهها بعد أن خلعت المنظار ازداد نضارة وشبابا ..
***
     وفى صباح السبت .. دخلت عيادة الدكتورة يانج .. مرة أخرى وقادنى خادمها الصينى إلى الداخل .. وجلست على الكرسى ذى المساند .. وأخذت الطبيبة تزيل بأناملها الرقيقة .. الطبقة الجيرية .. من أسنانى العليا .. وكانت رغم كل رقتها تدمى أسنانى فأشعر بإنسانيتها الرقيقة .. وهى تمسح هذه الدماء .. بالقطن الناعم المعقم .. ثم تغسل الجروح بالمطهر ..
     وكانت الجلسة الواحدة .. تستغرق نصف ساعة كاملة ورغم الألم الذى كنت أعانيه من مجلسها فإنى لم أكن أشعر بمرور الوقت .. ولم أكن أدرى أكان ذلك لوجهها الساكن أم لأنى لمست فيها صفات إنسانية لم أرها من قبل فى إنسانة مشغولة بالعمل .. أم لرقة حديثها ولأنى أدركت أنها تخصنى بجانب من وقتها ..
     وكانت الأوجاع قد قلت نسبيا .. ولكننى لم آسف وأنا أقضى وقتا من الصباح فى التردد على عيادة طبيبة فى مدينة عامرة فى كل ساعة بالمباهج والمتع ..
     وكانت الدكتورة يانج قد خبرت كل صفاتى فى خلال الأيام العشرة التى قضيتها وأنا أتردد عليها .. كما أننى عرفت كل طباعها .. تقريبا.. فهى متفرغة لعملها فى دقة متناهية ونشاط لا يوصف .. ويكتسى وجهها بصرامة .. لا أعرف سببها .. ولكنها فى عملها متفانية فى الرقة .. وقد تبسطت معى فى الحديث .. لأنى غريب .. وقد عرفت منها أن زوجها الطبيب الذى حدثتنى عنه من قبل التقت به أثناء عملها فى أحد المستشفيات .. وأحبها ولما طلب يدها لم ترفض .. ومات .. بعد عشرة قصيرة .. فى أثناء غارة اليابان على هونج كونج فى الحرب الأخيرة وبقيت هى تكافح وحدها .. وقالت لى إنها كانت تحبه لأنه كان يحترمها ويحوطها بحنان دافق ..
     ولقد أدركت أن جذور الرجل .. رغم مضى هذه السنين الطويلة .. لا تزال متأصلة فيها وذكراه لا تزال باقية .. ولهذا أحبت عملها وتفانت فيه ..
     ولقد قضيت ثلاثة أسابيع .. وأنا أتردد على هذه السيدة .. وأجلس تحت مصباحها البللورى .. وأقع تحت نظراتها .. العادية .. ونظرات المجهر ..
     ولقد لمست فيها كل الصفات النبيلة التى أحبها فى المرأة .. فقد عاملتنى بإنسانية زائدة ولما تبينت فقرى .. لم تأخذ إلا ربع الأجر ..
     وكان المعروف عن نظام عيادتها أنه لا يلتقى عندها مريض بمريض .. لأن كل واحد يأتى فى الساعة المحددة له .. ولاحظت أنها غيرت موعدى فجعلته فى المساء بدل الصباح .. وجعلتنى آخر واحد لتحادثنى أكثر وأكثر .. ولقد شعرت بأنها تخصنى .. بشىء غير عادى من رعايتها .. ومن نظراتها .. ومن حنانها ..
     وفى مساء يوم .. وكنت آخر مريض فى جدولها كالعادة  .. أبديت لها رغبتى فى أن تدلنى على محل أشترى منه معطفا لوالدتى ..
     فسألتنى وهى تصوب إلىّ نظراتها المتألقة :
     ـ كم عمرها .. ؟
     ـ أنها فى الثامنة والثلاثين .. مثلك .. وفى مثل طولك ..
وكانت حماقة منى أن أحدثها عن سنها .. فإن وجهها امتقع قليلا .. ثم عادت .. وابتسمت وقالت بصوت أكثر رقة ..
     ـ إذن أرافقك إلى المحل .. لتقيس المعطف علىَّ ..
     وقالت وهى تخلع مئزر العمل ..
     ـ متى تحب أن تذهب .. ؟
     ـ الآن .. إذا لم يكن لديك مانع ..
     ودخلنا متجر لين كروفورد .. فى شارع دى فو .. حادثت السيدة يانج .. العاملة بالصينية فعرضت علينا أجمل ما لديها من المعاطف .. وارتدت المدام .. المعطف .. الذى وقع عليه اختيارنا .. وأقبلت وأدبرت به .. فى الممشى .. ثم دخلت به أمام المرايا البللورية ورأته من أمام ومن خلف ..
     ولقد أحسست بها فى هذه اللحظة أكثر جمالا .. وفتنة .. من كل الساعات التى رأيتها فيها .. كانت حلوة آسرة .. فى المعطف السنجابى .. المتناهى فى الروعة ..
     ولقد شعرت فى هذه الساعة بقلبى يتحرك فى أعماقى .. وأدركت أن يدها .. لم تكن تلمس فمى وأسنانى .. ولثتى .. وإنما كانت تلمس قلبى وأنا لا أحس بها ولا أشعر .. وكنت أود أن أحرك يدى .. وألمس كتفها .. وصدرها من فوق المعطف .. ولكنى رددت نفسى عن هذه الرغبة .. وأنا أنظر إليها بوله ..
     وسألتنى :
     ـ هل يروقك .. ؟
     ـ طبعا .. وإنه سيحمل تذكارا جميلا ..
     ـ أى تذكار .. ؟
     ـ سأذكر .. أنك لبسته .. وأنه ضم جسمك ..
     فاحمر وجهها .. وتحركت إلى الطاولة ..
     ولما أخذت البائعة .. تلف المعطف .. سألتنى عن العنوان الذى ترسله إليه فقلت لها :
     ـ فندق الجولدن جات ..
     فابتسمت المدام .. ولكنها لم تنبس .. وكنت أعرف أن هذا الفندق ينزل فيه بعض الفتيات الأمريكيات .. العاملات فى هونج كونج .. فهل تصورت أننى اخترت هذا الفندق لهذا السبب ..؟ احمر وجهى وكنت أود أن أقول لها إنى لا أختلط بأحد .. ولكننى وجدت أن من الخير أن أصمت مثل صمتها ..
     ولفحتنا موجة برد قارسة .. ونحن نسير فى جوار إحدى العمارات الكبيرة ..
     فقلت لها :
     ـ هل تقبلين منى دعوة إلى فنجان من الشاى .. ؟
    ـ إنها .. بلدى .. وأنا .. التى يجب أن أدعوك ..
    ـ أرجوك أن تقبلى دعوتى أولا ..
     ودخلنا مشربا صغيرا .. وجلسنا متجاورين على كرسى صغير من الجلد وأحسست بها أكثر قربا .. وأكثر حنانا ..
     وكانت هناك موسيقى هادئة تنبعث من جرامافون .. وفتاة من جانب قاعة الشاى .. تغنى بالصينية فى صوت هادئ حزين .. وكانت الفتاة جميلة .. ولكننى كنت متجها بكليتى إلى المدام .. فجلسنا نتحدث وكأننا نتناجى لمدة ساعة ونحن لا نحس الوقت ..
     ولقد أحسست وأنا فى القاهرة .. بعاطفة الحب مع فتيات فى مثل سنى .. ولكنه كان حبا عارضا سريعا .. كنت أنساه كلية بعد شهر .. أو أقل من شهر .. ولكن هذه السيدة سيطرت على مشاعرى تماما .. ولقد قابلتها بقلب خال من المشاعر .. فتحولت كل مشاعرى إليها .. وكنت أحب فى الواقع أن تطول مدة علاجى .. إلى نهاية شهر ديسمبر وكنت أستطيع أن أحل مشكلة النقود .. بأن اقترض من تاجر باكستانى فى هونج كونج وكان يتعامل مع أخى عبد الحى .. فى الإسكندرية .. وبينهما حساب متصل .. وأنا لم أكن أعمل شيئا ذا بال يجعلنى أتعجل العودة .. فمنذ فرغت من دراستى الجامعية وأنا أخير نفسى الاستمرار فى الدراسة للحصول على الدكتوراه .. أو أن أساعد أخى فى تجارته ..
     ولم أكن أفكر فى وظيفة الحكومة أبدا ..
     وكانت حالتى الصحية فى الحقيقة تجعلنى أحب هذه الرحلة .. وكنت فى الواقع .. قد أنجزت فى هونج كونج مهمة جليلة القدر لأخى .. فاستطعت أن أحرك بعض نقوده المتجمدة فى بنوك هونج كونج .. وأن أحصل على كثير من نقوده التى كانت فى حكم الضياع ..
***
     ولا أدرى هل أحست الدكتورة يانج بقلبى .. ونحن ندخل الأسبوع الرابع من أول لقاء لنا .. وكانت هونج كونج نفسها .. قد ازدادت فى نظرى جمالا وإشراقا .. وكنت قد قطعتها طولا .. وعرضا .. ورأيت كل مرتفعاتها .. وكل تلالها .. الزمردية .. وكل المباهج التى فيها وكل أنوارها الساطعة .. وبقى علىّ أن أشاهد الريف فى الصين .. وكنت أحن إلى ذلك حنينا لا يدركه العقل ..
     ولما حدثت مدام يانج ..
     قالت :
     ـ إن لى كوخا فى الريف بالقرب من لوو .. وكنت أذهب إليه وأستريح .. ولكنه الآن شبه مهجور ..
     ـ ولماذا لا نذهب إلى هناك لمدة ساعة .. لآخذ فكرة عن الريف .. ؟
     ـ إذن سنذهب .. فى صباح السبت المقبل ..
     وطرت من الفرح .. وخرجنا من العيادة نودع خادمها الأبلة .. وذهبنا إلى مطعم مشهور بالطعام الصينى فى شستر رود .. فتعشينا عشاء شهيا ، ثم جلسنا فى قاعة للشاى هادئة نشرب الشاى ونستمع للموسيقى .. ولقد كانت تبعد بى دائما عن كل الأماكن المزدحمة .. كانت فى حاجة إلى الهدوء والراحة ..
***
    ولما التقينا صباح السبت فى فناء محطة هونج كونج لنركب القطار .. وجدت أن الخادم الأبله يرافقها وكان يحمل حقيبة كبيرة ..
     وكنت أقدر أنه جاء ليودعها على المحطة .. ولكنه ركب معنا القطار ..
     وبعد أربعين دقيقة .. من المزارع الناضرة .. والمناظر الطبيعية الفاتنة بلغنا محطة .. لوو ..
***
     وتجولنا قليلا فى المدينة .. ثم ركبنا سيارة أجرة انطلقت بنا بين المزارع الجميلة حتى بلغنا الكوخ .. وكان عبارة عن حجرة واحدة كبيرة من الخشب وكان مطليا باللون الأحمر وسقفه محدودبا .. وعلى الواجهة رسوم من الخزف ..
وشاقنى الكوخ والمزارع التى على امتداد البصر منه ..
     وكانت أشجار الخوخ والورد والتفاح تغطى الأرض .. وقريبة منا .. والبرسيم .. هو الزراعة الأساسية فى المنطقة وسررت من تقسيم الأرض الهندسى ومن الجداول الصغيرة .. والآبار المتقاربة .. والفلاحات .. يحملن الدلوين على العصا الطويلة .. وكل دلو فى جانب كالميزان .. وكن جميلات مشرقات .. وعلى رؤوسهن القبعات العريضة من الخوص ..
     ووقفت مع شابة منهن أتحدث بالإشارة .. وكانت السيدة يانج .. قد دخلت مع خادمها الكوخ .. ليهيئ لنا مجلسا ويعد لنا الغداء ..
     ولما عادت وجدتنى جالسا بجوار الفلاحة الصينية ..
     فسألتنى :
     ـ بأى لغة تحادثها ..؟
     ـ بالإشارة ..
     ـ هيا لنتجول .. إنك لم تأت إلى هنا لتحادث الفلاحات .. وتجولنا .. وبعد ساعة تغدينا داخل الكوخ .. ثم خرجنا لنتجول جولة طويلة .. وبعد أن تعبنا جلسنا نتحدث تحت شجرة من شجر التفاح .. ثم أخذنا المطر ونحن فى الطريق إلى الكوخ وغرقنا تحت سيل منه .. ولم نكن نرتدى معاطف .. وعندما وصلنا إلى الكوخ كنا مبتلين تماما ..
     وضحكنا لمنظرنا وأشرت عليها بأن ندخل ونجفف ثيابنا .. على النار .. التى أشعلها الخادم فى الداخل ..
     ولكنها طلبت منى أن أدخل أيضا ..
     فقلت لها :
     ـ ادخلى أنت .. أولا .. وجففى ثيابك ..
     ـ وأنت كيف تظل هنا .. تحت الأمطار .. ؟
     ودخلت وسحبتنى من يدى .. وهى تحادث الخادم وعملا ستارا فى جانب من الغرفة وأصبح المكان معدا لها ..
       ودخلت وراء الستار لتخلع ثيابها..
       وتركنا الخادم ليعد لنا الشاى ..
     وخلعت أنا سترتى .. وقميصى ونشرتهما على كرسى .. بجوار النار .. وخرجت هى بقميصها .. واقتربت من النار .. وكانت الرياح تصفر فى الخارج .. والأمطار تتساقط بغزارة والظلام قد أخذ يزحف .. وكانت النار التى فى المدفأة .. هى التى تنير الكوخ ..
     وجلست السيدة يانج مسترخية بجانب النار .. وانا بجوارها .. ورأيتها فى هذه الساعة .. كعذراء فى سن العشرين تستشف المجهول من خلال اللهب ..
     وكانت مسترخية ومغمضة عينيها .. ويسقط اللهب الشاحب .. على الخد والجبين .. والشعر .. فيذهبه .. ويكسوه بلون العسجد ..
     ودخل علينا الخادم بالشاى .. ووضع أمامنا الكوبين ..وفى قعرهما الشاى الأخضر .. ثم الإبريق الذى كان لا يزال ينش منه البخار ..
     وسألتنى .. قبل أن تصب الماء المغلى ..
     ـ إنك تود سكر ..؟
     ـ لا .. سأشربه .. مثلك ..
     وكانت متغطية .. بالبطانية .. لتخفى عنى قميصها ..وأحسبه كان على لحمها .. الطرى .. ورأيت استدارة كتفيها .. وعنقها العاجى .. وشعرها الأسود .. الذى زاده اللهب .. لمعانا وفتنة ..
     وكانت عيناها تبحثان عنى فى النار .. وعن أسرارى وأسرارها .. وأسرار  الحياة .. وأسرار الوجود كله .. وكنت أفكر مثلها .. فى الشىء  الذى جمعنى بها .. وجعلها تأتى إلى هنا لتنفرد بى فى خلوة حالمة .. وأنا الغريب عنها .. المار فى سماء حياتها كما يمر الطيف ..
     ولم يكن هناك أحد بجانب الكوخ .. أو قريبا منه .. كان على ربوة .. منعزلة ..
     ولولا أنها كانت جامدة وقد أماتت السنون كل عواطف الأنوثة التى فيها لتصورت أنها اختارت هذا االمكان .. لتجدد عواطفها وذكريات شبابها ..
     ودخل الليل .. ولم ينقطع المطر ورأينا أن نقضى الليل فى الكوخ .. ولم يكن بقى معنا طعام ولا شراب .. وأحسسنا بالجوع الشديد .. وبعد حديث ومشاورة .. رأت أن ترسل الخادم إلى لوو .. ليأتى لنا بزجاجة نبيذ وبعض الطعام .. والخشب للنار .. ولو أن المشوار طويل .. ويستغرق ساعتين ولكنه خير من أن ننام على الطوى فى هذا البرد الشديد ..
     ومع أن خادمها كان مؤدبا .. جدا .. ولكننى شعرت بعد أن تركنا بالراحة .. وأصبحت السيدة يانج بجوارى وحدها .. وتحت لمساتى .. ورغباتى .. ولكننى لم أقرب منها ..
     وكنت أود أن أسألها :
     ـ ألم تحبى قط بعد زوجك ..؟
     ولكننى وجدت السؤال لا معنى له .. فى مثل هذه الساعة .. لأنها لا يمكن أن تجاوب بصراحة .. وكانت قد التفت كالقوقعة ..
     وكنت أنظر إلى اللهب .. الذى أخذ يتضاءل .. فى النار .. حتى كادت الشرارات أن تخمد ..
     وتحركت واقتربت من الموقد وبحثت عن جذوة .. فوجدتها لا تزال مشتعلة .. ووضعت عليها قطعتين من الخشب وحركت النار .. فاشتعل المكان وتوهج .. ووجدتها ترقبنى بقوة وأنا أفعل هذا ..
     وكان وجهها ساكنا ..
     وأنفاسها تتردد بهدوء ..
     والواقع أننى كنت أبحث عن جذوة فيها هى .. لأحركها .. كما حركت هذه النار ولكن لم أكن أدرى أين أضع أصابعى .. ؟
     ورأتنى أتحرك وأتجه إلى الباب ..
     فسألتنى :
     ـ إلى أين .. ؟
     ـ إنى أنظر إلى المطر وإلى الليل .. فى سماء الصين ..
     ـ ألا يوجد عندكم مطر ..؟
     ـ يوجد .. ولكن ليس بهذا القدر .. إن ما عندنا يعتبر رذاذا .. كنت أنام فى الحقول والأمطار ساقطة .. فلا تبتل ثيابى ..
     ـ هل أنت ريفى .. ؟
     ـ أجل .. وقضيت صباى كله فى الريف ..
     ـ ولهذا تبدو قويا ..
     ونظرت إلى عينيها .. وكانت أكثر اتقادا .. من عينى ..وحركت يدى .. على ذراعها وكانت البطانية لا تزال تغطى صدرها ..
     وسألتها :
     ـ هل تشعرين بالبرد ..؟
     ـ لا .. وإنما أشعر بحاجة .. إلى فنجان من الشاى ..
     ـ هل بقى شاى .. ؟
     ـ أظن ..
     ـ ووضعت الماء فى النار ..
     وشعرت بها خجلى .. وهى تزحف ملتفة .. بالدثار ..
     فتحركت إلى الباب .. واتجه نظرى إلى الخارج .. وعندما تلفت وجدتها .. عارية .. هناك وراء الستار .. ولم أكن أدرى أتريد أن تجفف الملابس الباقية .. أم ترتدى الملابس التى جفت .. ؟
     وتحولت عنها إلى النار .. وكان وهجها .. يغشى عينى .. ورأيت اللهب الأحمر .. يشب ويخبو .. فألقيت بقطع من الخشب .. وتناولت الماء الذى فى الإبريق .. وكان ينش وحملت إليها الفنجان ..
     وكانت قد ارتدت الجونلة .. التحتية .. وأخذت تضع الصدار .. وبدا صدرها تحت نظراتى وتحت ضوء النار ولهبها ..
     ومدت يدها تمسك بالصدار .. فناولته لها .. ونظرت إلى طويلا .. وظللت ممسكا بيدها ونظراتى إلى عينيها .. وكانتا أكثر اتقادا .. من عينى .. وحركت يدى .. على ذراعها .. وسقط الصدار على الأرض ..
    ـ إنك دافئة ..
     ولم ترد وظلت صامتة وشددتها إلى صدرى .. وجذبتنى إلى الفراش وكنت أقبل عينيها وشفتيها وصدرها .. وكل ما يقع تحت شفتى وانطفأت النار التى فى المدفأة .. ولكن جذوتها كانت قد اشتعلت فينا .. وسقطت علينا البطانية التى كانت تستعملها كستار .. فجذبتها فوقنا ..
***
      وتنبهت مدام يانج مذعورة على صرخة حادة خرجت منى .. فقد أحسست فجأة بسكين حادة تمزق ظهرى .. ولما نظرت المدام .. من خلال الظلام .. رأت خادمها .. يجرى منحدرا عن الربوة بسرعة الريح .. وكان قد وضع الشىء الذى حمله من السوق بجوار الباب ..
     وسألت المدام .. وهى تغسل جرحى ..
     ـ إلى أين هو ذاهب .. ؟
     ـ سيعبر القنطرة .. ويذهب إلى الجانب الآخر ..
     ـ ولا يعود .. ؟
     ـ أبدا ..
     ـ منذ متى وهو فى خدمتك ..؟
     ـ إن له حوالى عشرين سنة .. فى بيتنا ..
     ـ إنه جذوة .. مثل هذه الجذوة التى ترينها فى هذا الرماد .. جذوة مشتعلة .. ولكنك لم تحسى بها .. وتلك هى الغفلة الأزلية .. فى المرأة .. وفى طبيعة الكثير من البشر ..
     ـ اسكت .. إن الكلام يؤذيك .. ويجعل الجرح .. ينز ..
     ـ وهل سأشفى ..
     ـ بالطبع ..
     ـ الطعنة .. لم تكن قاتلة .. ؟
     ـ أبدا .. إنها سكين صدئة وجدها فى المطبخ ..
     ـ أحس بأنى سأعيش .. ولكن إن مت .. اجعلى رأسى هكذا على صدرك ..
     ـ اسكت ..
     واحتضنتنى .. أكثر .. وأحسست بشفتيها تبحثان عن الجرح ..
================================
نشرت القصة فى مجلة " الجيل بالعدد 374 بتاريخ  23/2/1959 وأعيد نشرها فى كتاب " غرفة على السطح " سنة 1960
=================================


فهرس

اسم القصـــــة                         رقم الصفحة

امرأة فى الجانب الآخر       .......................   2
ساعة المحطة        .............................    33
الرماد المشتعل      .........         ..... .......   38
جسر الحياة             .............  .............   54
المنارة      ............      ..........  ...... .    66
الوجه الصامت           .........................    71
عند البحيرة        ................................   85
غرفة على السطح   .................          ...    93
المجداف   ..................  ..............  ....  103
التفاحة      ....................................    110
المصباح     .................     .............    117
جذوة فى الرماد       .................  ....        126